أصبت بالذهول قبل أيام عندما ناقشني أحد الملحدين في بعض آيات القرآن، والتي ادعى وجود التناقض فيها، وهي : (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحىٰ إلى وما أنا۠ إلا نذير مبين)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، (قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، (وبالحق أنزلنٰه وبالحق نزل وما أرسلنٰك إلا مبشرا ونذيرا إن أنت إلا نذير)( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ)، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) . شبهة ذلك الشخص أن بعض هذه الآيات تحصر وظائف رسول الله في أمر معين، ثم يتبين أن له وظائف أخرى، مثل وما أنا إلا نذير مبين، أو إلا نذير وبشير، حيث تم حصرها بالآية الأولى بالنذير، ومن ثم نذير وبشير، وبعدها ذكر أنه شاهد ومبشر ونذير، ومن ثم تنزل آيات تؤكد على أن الرسول يجب أن يحكم فيما شجر بين الناس، هل هناك أي وجه من التناقض في الآيات ؟
بيان الحصر الإضافي في قوله: (وما أنا إلا نذير مبين)
السؤال: 335079
ملخص الجواب
هذا أسلوب معروف في اللغة، يعلمه من له أدنى اطلاع على البلاغة، وإنما أُتي محاورك من الجهل بذلك. والنصيحة لك ألا تناقش أصحاب الشبهات ، ما لم تكن على علم ودراية؛ فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة، وضعف المناقش قد يؤدي إلى تمسك المبطل بباطله.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث بالبشارة والنذارة ، والحكم بين الناس وغير ذلك من المهام، وليس هناك تعارض بين الآيات التي تثبت هذه المهام؛ لأن الحصر نوعان: حقيقي، وإضافي، والحصر المذكور في الآيات إضافي.
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة ، رحمه الله :
" القصر: يأتي في اللّغة بمعنى التّخصيص، يقال لغة: قَصَرَ الشَّيْءَ على كذا، إذا خصّصه به، ولم يجاوز به إلى غيره. ويُقالُ: قَصَر غلَّةَ بستانه على عياله، إذا جعلها خاصّةً لهم، وقَصَر الشيءَ على نفسه، إذا خصَّ نفسَه به، فلم يجعل لغيره منه شيئاً.
ويأتي الْقَصْر أيضاً بمعنى الحبْسِ، يُقال لغة: قَصَر نفسه على عبادة رَبّه، إذا حَبَسها على القيام بعبادة ربّه، وقَصَر جُنْدَهُ على ممارسة التدريب العسكريّ في القلعة، إذا حَبَسَهُمْ وألزَمَهُمْ بذلك فيها.
والقصر في اصطلاح علماء البلاغة: تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلاميّةٍ تدلُّ عليه.
ويقال في تعريفه أيضاً: جعْلُ شيءٍ مقصوراً على شيءٍ آخر بواحدٍ من طُرُقٍ مخصوصة من طُرُق القول المفيد للقصر.
والمقصور عنه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، ويسمَّى عند البلاغيين "قصراً حقيقيّاً" مثل: "لا إله إلاَّ الله" أي: لا يُوجَدُ في الوجود كُلّه معبودٌ بحقٍ سوى الله عزَّ وجلَّ.
وهذا "القَصْر الحقيقيّ" إذا كان مضمونه مطابقاً للواقع سمّوه "حقيقيّاً تَحْقيقيّاً" أي: صادقاً مطابقاً للواقع.
وإذا كان غير مطابق للواقع، وإنما ذُكر عَلَى سبيل المبالغة والادّعاء المجازيّ، سمَّوْهُ "حقيقيّاً ادّعائيّاً" أو مجازيّاً" مثل قولهم: لا سيف إلاَّ ذو الفقار.
الوجه الثاني: أن يكون المقصور عنه شيئاً خاصّاً يُرادُ بالْقَصْر بيانُ عَدَم صحَّةِ ما تصوَّرَهُ بشأنه أو ادَّعاهُ المقصودُ بالكلام، أو إزالة شكّه وتردّده، إذا الكلام كلُّه مُنْحَصِرٌ في دائرة خاصّة، ويسمَّى "قصراً إضافيّاً" أي: ليس قصراً حقيقيّاً عامّاً، وإنّما هو قَصْرٌ بالإِضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول احتمالين أو أكثر من احتمالاتٍ محصورة بعَدَدٍ خاصّ، ويُسْتَدلُّ عليها بالقرائن.
مثل: وَمَا مَحمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل [آل عمران: 144] لقد جاء هذا البيان لتصحيح تصوُّر الَّذِين يتوهَّمُونَ أنّ محمداً رسولٌ لاَ يموتُ كما يموت سائر الناس.
فالموضوع الخاصّ الذي يدور الكلام حوله هو كون محمّدٍ رسولاً مبرَّءاً من أن يكون عرضةً للموت، فجاء النصّ مبيّناً قَصْرَهُ علَى كونه رسولاً فقط، والمقصورُ عنه أمْرٌ خاصٌّ هو كونه لا يموت، لا سائر الصفات غير صفة كونه رسولاً، إذْ له صفات كثيرة لا حصر لها، وهي لا تدخل في المقصور عنه.
إذن: فالقصر في هذا المثال هو من قبيل "القصر الإِضافي"." انتهى، من "البلاغة العربية" (523-524). وينظر: "المنهاج الواضح في البلاغة"، حامد عوني (2/70-71).
والقصر الإضافي يأتي لحكمة، منها قلب ما يعتقده السامع، ويسمى قصر قلب، كأن يقول المشركون إنه مجنون، فيقال لهم: إنه هو إلا نذير مبين.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الأعراف/184 :
"وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ : قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ أَوْصَاف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّذَارَةِ وَالْبَيَانِ، وَذَلِكَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، هُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ هُوَ نَذِيرٌ مُبِينٌ ؛ لَا مَجْنُونٌ كَمَا يَزْعُمُونَ" انتهى.
ومنه : أن يقول المشركون: إنه مفتر وساحر، فيقال لهم: إن هو إلا نذير مبين.
قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ الأحقاف/7-9 .
قال ابن عاشور رحمه الله: "وَعَطْفُ : ( وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ، عَلَى جُمْلَةِ : ( مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) ؛ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: ( وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم )، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ؛ لَا مُفْتَرٍ . فَالْقَصْرُ : قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ ، لِرَدِّ قَوْلهم : ( افْتَراهُ )" انتهى من "التحرير والتنوير" (26/ 18).
وقد يتعنت المشركون ، فيطلبون من الرسول أن تكون له جنان ، وبيوت من الذهب ، فيقال لهم: ما هو إلا بشر رسول، وهذا لا ينفي مهامه الأخرى ، من النذارة والبشارة والحكم؛ لكن السياق هنا هو إبطال ما يريدون ، والتأكيد على أنه بشر رسول لا يملك ما ذكروا.
قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا الإسراء/90-93 .
وهذا القصر الإضافي كثير في اللغة والقرآن ؛ فيساق لغرض معين، كما بينا، ولا يكون المراد أن الموصوف لا يتصف إلا بذلك.
والقصر الإضافي نوعان:
" قصر إفراد:
وهو تخصيص شيء بشيء، وفيه اعتقاد المخاطب الشركة، فنقطع بالقصر معنى الاشتراك، نحو: ما شوقي إلّا شاعر، ردا على من اعتقد انه شاعر وكاتب معا.
ب. قصر قلب:
وهو تخصيص شيء مكان شيء ؛ إذا اعتقد المخاطب العكس ، وقلب عليه حكمه، نحو: ما سافر إلّا عمر؛ ردا على من اعتقد أن المسافر أحمد لا عمر، فيعكس عليه حكمه، ويقلب له.
وقد أضيف إليهما قسم ثالث هو:
ج. قصر تعيين:
إذا كان المخاطب متردّدا في الحكم، نحو: الأرض متحركة لا ثابتة. ردّا على من شكّ وتردّد في الحكم" . انتهى ، من "علوم البلاغة: البديع والبيان والمعاني" للدكتور محمد أحمد قاسم، ص342
والحاصل :
أن هذا أسلوب معروف في اللغة، يعلمه من له أدنى اطلاع على البلاغة، وإنما أُتي محاورك من الجهل بذلك.
والنصيحة لك ألا تناقش أصحاب الشبهات ، ما لم تكن على علم ودراية؛ فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة، وضعف المناقش قد يؤدي إلى تمسك المبطل بباطله.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب