يزعم الأحمدية أن النبي سوف يستخدم نفس الكلام الذي سوف يستخدمه عيسى، وهذا يعني أن معنى "التوفّي" لكلا النبيّين هو نفسه، ولأن "التوفّي" للنبي كان الموت، فيجب أن يعني حدوث نفس الشيء لعيسى. يورد الأحمدية الحديث التالي: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضى الله عنهما ـ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ـ ثُمَّ قَالَ ـ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ـ ثُمَّ قَالَ ـ أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ).
شبهة للأحمدية حول رفع عيسى عليه السلام
السؤال: 335316
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذا الحديث رواه البخاري (4625) ومسلم (2860) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَالَ: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ .
وهذا الحديث لا يدلّ على ما ادعوه من موت عيسى عليه السلام، وبيان ذلك من وجهين:
الوجه الأول:
أن القرآن نزل بلغة العرب وعرفها في التخاطب، وقول العرب توفيت الشيء واستوفيته : بمعنى قبضته، ومن ثمّ استعمل في الدلالة على الموت؛ لأن فيه معنى القبض، وهو قبض الرّوح من الجسد.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" ويقولون: أَوْفَيْتُك الشّيءَ، إذا قضيته إيّاه وَافِيا. وتَوَفَّيْت الشّيءَ واسْتَوْفَيْتُه؛ إذا أَخَذْتَه كلّه حتّى لم تترك منه شيئا. ومنه يُقال للميّت: تَوَفَّاه اللّه " انتهى من "معجم مقاييس اللغة" (6 / 129).
فلذا استعملت الوفاة بمعنى الموت، وبمعنى النوم، وبمعنى قبض الله تعالى عبده إليه جسما وروحا، فيفهم كل معنى بحسب القرينة.
وقال أبو عبيد رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) قال الفراء: تقديم وتأخير أي رافعك إليّ ومتوفيك.
قال: وقد تكون الوفاة قبضًا ليس بموت، فقال: توفيت حقي من فلان واستوفيته بمعنى واحد.
وقال القتيبي: قابضك من الأرض من غير موت.
قوله تعالى: ( يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) أي: ينيمكم، والوفاة النوم هاهنا… " انتهى من "الغريبين" (6 / 2020).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" … ولهذا قال من قال من العلماء: ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) أي: قابضك، أي قابض روحك وبدنك، يقال: توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ التوفي لا يقتضي نفسه توفي الروح دون البدن، ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة.
وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )، وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 / 323).
وقد جاءت القرينة واضحة وقاطعة بأن الله تعالى توفى وقبض عيسى عليه السلام برفعه إليه، وليس بإماتته وقبض روحه من جسده، وهذا في قول الله تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ آل عمران/55.
وقول الله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا النساء/157 – 159.
وجاءت القرينة واضحة، وقاطعة أيضا: على أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم : كان موتا ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات في وقت معلوم، وفي مكان معلوم، وأنه قد دفن في قبره المعلوم، بإجماع أمة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا معنى لحمل إحدى الوفاتين على الأخرى، لمجرد الاشتراك في لفظ التوفي الذي يشمل النوعين: توفي النوم، أو الرفع ، وتوفي الموت.
وبناء على هذا فالتشبيه في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ * فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ .
ليس فيه دلالة على موت عيسى عليه السلام؛ لأن المتقرر عند جميع العقلاء أن التشبيه لا يقتضي التسوية من كل جهة، فمحل التشابه أنّ كلا من عيسى عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم كانا شاهدين على قومهما ، لمّا كانا بين أظهرهم، فلما غابا عنهم فعيسى عليه السلام غاب بوفاة الرفع، والنبي صلى الله عليه وسلم غاب بوفاة الموت، انقطعت شهادتهما.
الوجه الثاني:
احتجاج هذه الفرقة بحديث ابن عباس يقضي بالتزامهم بكل ما جاءت به السنة، وإلا ؛ فلا معنى لهذا الاحتجاج.
وقد جاءت السنة الصحيحة الثابتة دالة على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمن ، وليس بحياته من جديد، ولا بخروجه من قبره.
كحديث أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ رواه البخاري (2222)، ومسلم (155).
وقد تواترت الأحاديث بهذا.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره لها:
" فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد، رضي الله عنهم.
وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه …
فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقرير وتشريع ، وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان، حيث تنزاح عللهم، وترتفع شبههم من أنفسهم؛ ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى، عليه السلام، وعلى يديه، ولهذا قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا .
وهذه الآية كقوله تعالى: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) وقرئ: "عَلَم" بالتحريك، أي إشارة ودليل على اقتراب الساعة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 464 – 465).
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" ونزول عيسى المسيح وقتله الدجال حق صحيح عند أهل السنة؛ لصحيح الآثار الواردة في ذلك؛ ولأنه لم يرد ما يبطله ويضعفه " انتهى من"إكمال المعلم" (8 / 492).
لكننا نرى أن هذه الفرقة لم يفعلوا ذلك بل تخيّروا ما يعجبهم ويوافق اعتقادهم، فآمنوا ببعض الوحي وردّوا بعضه، وهذا في باب الاستدلال يعدّ من التلاعب.
لأن أخبار الوحي حق لا يمكن أن تتعارض، بل هي متطابقة يصدق بعضها بعضا؛ فلذا من صفة المؤمن أن يؤمن بها جميعا ويزيل ما قد يوهم التعارض.
وأسعد الناس بهذا المنهج الذي حقق كمال الاتباع للوحي هم أهل السنة والجماعة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق، وهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره " انتهى من "أعلام الموقعين" (4 / 58).
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" عن رجلين تنازعا في أمر نبي الله "عيسى ابن مريم" عليه السلام، فقال أحدهما: إن عيسى ابن مريم توفاه الله ثم رفعه إليه؛ وقال الآخر: بل رفعه إليه حيا. فما الصواب في ذلك. وهل رفعه بجسده، أو روحه، أم لا؟ وما الدليل على هذا وهذا؟
فأجاب:
، عيسى عليه السلام حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ) وثبت في الصحيح عنه: ( أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدجال ).
ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيي فإنه يقوم من قبره.
وأما قوله تعالى: ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) : فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية.
وكذلك قوله: ( وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )، ولو كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء.
وقد قال تعالى في الآية الأخرى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )، فقوله هنا: ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) يبين أنه رفع بدنه وروحه كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه؛ بل مات " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 / 322 – 323).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب