هل يوجد تعارض بين هذه الآية: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) سورة ص/75، وهذه الآية: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)سورة الأعراف/12، حيث إن الله سبحانه وتعالى قال في الآية الأولى( أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)و في الآية الثانية قال سبحانه (أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)؟
هل في قوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) مخالفة لغيرها من الآيات في القصة؟
السؤال: 402851
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
أجاب العلماء عن سبب اختلاف الألفاظ بين القصص القرآني، وذكروا أن من مقاصد هذا التفريق بين القصص المتشابه: تفريق المعاني، وإيراد المعنى الواحد في صور متكررة، وهذا غير خارج عن سنن العرب في الكلام.
يقول ابن جماعة: «ما سبب اختلاف الألفاظ، وزيادة المعاني ونقصها، في بعض قصص آدم دون بعض، وكذلك في غير ذلك من القصص كقصة موسى مع فرعون، ونوح وهود وصالح مع قومهم، وشبه ذلك؟
أمَّا اختلاف الألفاظ؛ فلأن المقصود المعاني؛ لأن الألفاظ الدالة عليها.
أولًا: لم تكن باللسان العربي، بل بألسنة المتخاطبين حالة وقوع ذلك المعنى، فلما أُديت تلك المعاني إلى هذه الأمة، أُديت بألفاظ عربية تدل على معانيها، مع اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى، فلا فرق بين (أبى أن يكون مع الساجدين)، وبين (لم يكن مع الساجدين) في دلالتها على معنى واحد وهو عدم السجود.
وكذلك لا فرق في المعنى بين (مالك ألا تكون) و(ما منعك أن تسجد)؛ لأن اللام صلة زائدة.
وأما زيادة المعاني ونقصها في بعض دون بعض؛ فلأن المعاني الواقعة في القصص فرقت في إيرادها، فيذكر بعضها في مكان، وبعض آخر في مكان آخر، ولذلك عدة فوائد ذكرتها في كتاب (المقتنص في تكرار القصص)”، انتهى.
“كشف المعاني في المتشابه من المثاني”: (173 – 174).
وينظر: “درة التنزيل وغرة التأويل” (2/ 571 – 574).
وقد ذكرنا في الجواب رقم: (140060)، عدة فوائد مترتبة على اختلاف اللفظ القرآني للحدث أو الموقف، فليراجع.
ثانيًا:
قال تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12]، وقال سبحانه: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75]، وقال سبحانه: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32].
في هذه الآيات الكريمة موقف واحد، وتعبير مختلف، ففي الآيات: (ألا تسجد إذ أمرتك)، و(ما منعك أن تسجد)، و(ما لك ألا تكون مع الساجدين).
وكلها تدل على معنى واحد، وهو سؤال الله سبحانه وتعالى وتوبيخه لإبليس لعنه الله، لأجل امتناع إبليس من السجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه.
وإما الإشكال في قوله : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ، وأن المتبادر أن يلومه على الامتناع من السجود، فيقول : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، كما في الآية الأخرى؛ فقد قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في جوابه:
“قوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ في هذه الآية إشكال بين قوله: مَنَعَكَ مع “لا” النافية؛ لأن المناسب في الظاهر لقوله: مَنَعَكَ -بحسب ما يسبق الى ذهن السامع لا ما في نفسى الأمر- هو حذف “لا”، فيقول: “ما منعك أن تسجد” دون “ألا تسجد”.
وأجيب عن هذا بأجوبة، من أقربها: هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره، وهو أن في الكلام حذفًا دل المقام عليه.
وعليه، فالمعنى: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد إذ أمرتك؟
وهذا الذي اختاره ابن جرير، قال ابن كثير: إنه حسن قوي.
ومن أجوبتهم: أن “لا” صلة [يعني: زائدة]، ويدل له قوله تعالى في سورة ص: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ الآية [ص/ 75]”، انتهى.
“دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب” (144 – 145).
وممن قال بزيادة “لا” في قوله (ألا تسجد) الإمام “ابن قتيبة” فقال: “«وقد تزاد (لا) في الكلام والمعنى: طرحها؛ لإباء في الكلام، أو جحد.
كقول الله عز وجل: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي ما منعك أن تسجد، فزاد في الكلام (لا)؛ لأنه لم يسجد.
وقوله سبحانه: (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ يريد : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، فزاد (لا) ؛ لأنهم لا يؤمنون إذا جاءت”، انتهى.
“تأويل مشكل القرآن” (154).
ولخص الإمام “مكي بن أبي طالب” هذه المسألة فقال: “«هذا السؤال من الله (تعالى) سؤال تقرير وتوبيخ؛ لأنه، تعالى، قد علم ذلك منه. و”لا” زائدة مُؤكِّدة؛ والمعنى: ما منعك أن تسجد.
وقيل: إن “لا” غير زائدة، وإن في الكلام حذفًا. والمعنى: ما منعك من السجود، وأحوجك ألا تسجد؟ فحذف “أحوجك” لدلالة الكلام عليه. وهو اختيار الطبري.
وقيل المعنى: (إن) المنع هنا بمعنى “القول” و”لا” غير زائدة ، والتقدير: من قال لك ألا تسجد إذ أمرتك بالسجود. ودخلت “أن” كما تدخل في كلام هو بمعنى القول، ولفظه مخالف للفظ القول؛ كقولهم: “ناديت: أن لا تقم”، و “حلفت ألا تجلس” ؛ فلما كان المنع بمعنى القول، وليس من لفظه دخلت “أن”.
وقيل: إن المنع لما كان معناه الحول بين المرء وبين ما يريده، فالممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه، فلما كان معنى المنع هذا، كان تقدير الكلام: ما اضطرك إلى أن لا تسجد”.
“الهداية الى بلوغ النهاية” (4/ 2298 – 2299).
والحاصل:
أنه لا تعارض بين الآيات الكريمة، بل لكل آية منها توجيه، جار على سنن العرب في كلامها، وطرائقها في البيان. والحمد لله رب العالمين.
وحاصل الأجوبة:
أولًا: أن تكون “لا” زائدة، وليس معنى الزيادة هنا: الإهمال، بل معناها: أنها تأتي لتوكيد الكلام.
ثانيًا: أن “لا” غير زائدة، وأن في الكلام تقدير، والمعنى: ما منعك من السجود وأحوجك ألا تسجد.
ثالثًا: أن معنى الآية: من قال لك ألا تسجد، والمنع بمعنى القول.
رابعًا: أن المنع لما كان معناه الحول بين المرء وبين ما يريده، فالممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه، فلما كان معنى المنع هذا، كان تقدير الكلام: ما اضطرك إلى أن لا تسجد.
ثالثًا:
لا يمكن وجود تعارض بين آية وأخرى ، ولا بين حديث وحديث ، ولا بين آية وحديث ، لأن الله تعالى قال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء/82.
قال “الشاطبي” في “الاعتصام” (3/ 272): ” لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه بادئ الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله تعالى قد شهد له أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلم من غير اعتراض، إن كان الموضع مما لا يتعلق به حكم عملي، فإن تعلق به حكم عملي التمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين، أو يبقى باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك، فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة، فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها.
ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله ورسوله عليهم”، انتهى.
وانظر، الجواب رقم : (147416).
وإذا حصل إشكال في فهم بعض الناس فإن العلماء يلجئون إلى طرق لدفع الإشكال، منها:
1- تحرير وجه الإشكال.
2- معرفة سبب النزول.
3- رد المتشابه إلى المحكم، وإلى العالم به مع الإيمان والتصديق.
4- جمع الآيات ذات الموضوع.
5- النظر في السياق.
6- تلمس الأحاديث والآثار الصحيحة لدفع الإشكال.
7- إعمال قواعد الترجيح.
انظر : “مشكل القرآن” للمنصور : (203).
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة