أعمل في الخارج ، ولي أب وأم في بلدي ، ويوجد لي أخوات هناك أيضا ، وكل منهم مشغول في حياته ، غير أنهم مقيمون في نفس البلد ، أشعر دائما بالتقصير تجاه والدَيَّ ، وأشعر دائما أنهم في حاجة إلي ، على الرغم من سؤالي الدائم عنهم ، والنزول في إجازات أقضيها معهم .
هل الواجب عليَّ شرعا أن أترك عملي في الخارج والرجوع لبلدي والعمل بجانبهما ؟
أم ماذا علي فعله ؟
وما الواجب علي حتى لا يكون هناك أي تقصير تجاههم ؟
هل يترك عمله ليعيش مع والديه ؟
السؤال: 100947
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
بر الوالدين على مراتب وشعب ، أدناها صلتهما بالإنفاق والرعاية والسؤال والاهتمام ، وأما أعلاها فلا حد له ، يتنافس فيه الصالحون ، ويتبارى فيه المؤمنون ، يرسمون صورا من البر لا يكاد ينتهي حسنها عند حد ، إذ هي أخلاق النبوة ومعدن الرسالة ، كان الباعث عليها تلك الآيات والأحاديث التي تعظم حق الوالدين وتقرنه بحق الله تعالى ، وترتب الأجر العظيم على البر والصلة ، فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال بعد الصلاة ، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم قراءة حارثة بن النعمان في الجنة فقال : ( كَذَلِكُمُ البِرُّ ، كَذَلِكُمُ البِرُّ ) رواه ابن وهب في “الجامع” (22) وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (913)
وصار أويس القرني مستجاب الدعوة بسبب بره أمه .
وروى البخاري في “الأدب المفرد” (15) وصححه الألباني في “صحيح الأدب” عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنه أتاه رجل فقال : إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني ، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه ، فغرت عليها فقتلتها ، فهل لي من توبة ؟ قال : أمك حية ؟ قال : لا . قال : تب إلى الله عز وجل ، وتقرب إليه ما استطعت . فذهبت فسألت ابن عباس : لم سألته عن حياة أمه ؟ فقال : لأني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة ) .
ونحن نقول لك أخانا السائل :
لا شك أن الأَولى في البر والصلة للوالدين البقاء عندهما للخدمة والرعاية ، فقد لازم أبو هريرة أمه ، ولم يحج حتى ماتت ، لصحبتها . كما في صحيح مسلم (1665) ، ونص الفقهاء على أن سفر الابن للعلم أو التجارة يَحرُمُ إذا ترتب عليه ضيعة للوالدَين :
جا في “الموسوعة الفقهية” (3/156) :
” إذا أراد – يعني الولدُ – الخروج لطلب العلم في بلدة أخرى ، أو للتجارة ، وخاف على والديه الضيعة ، فليس له أن يخرج إلا بإذنهما .
والأصل في ذلك ما أخرجه أبو داود (2528) والنسائي (4163) أنه : ( جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ : جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ , فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتهمَا ) .
– صححه ابن الملقن في “البدر المنير” (9/40) والألباني في “صحيح أبي داود” –
وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : ( جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَاهِدُ ؟ فَقَالَ : أَلِك أَبَوَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ )متفق عليه ” انتهى .
أما إذا لم يترتب عليه ضيعة الوالدين ، وكان عندهما من يقوم عليهما ، أو كانا قادرين على القيام على شؤونهما ، فله أن يخرج إلى طلب العلم أو التجارة ، ولا يشترط استئذانهما .
جاء في “المدونة” (2/101) :
” قال مالك : إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء ، وليس للوالد أن يمنعه “انتهى .
وانظر بعض التفصيلات الفرعية في “الموسوعة الفقهية” (8/70-71) .
إلا أننا ننصحك بالكمال ، وننصحك بما فيه الأجر الأعظم عند الله ، أن تكون أقرب إليهما ، فتسعدهما فيما بقي لهما من أيام ، وتقوم على شؤونهما ، فلا تحرمهما من صحبتك ، ولا تكن سببا لحزنهما كلما أردت توديعهما في سفرك ، ومن أراد الكمال في البر ، فلينزل عند رغبتهما ، وما يكون أسعد لقلبيهما ، وأقرب لمحبتهما ورضاهما ، وقد فسر عروة بن الزبير رحمه الله قوله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) الإسراء/24 بقوله : ” لا تمتنع من شيء أحباه ” انتهى . “تفسير الطبري” (17/418) .
وروى البخاري في “الأدب المفرد” (18) وصححه الألباني في “صحيح الأدب المفرد” عن أبي بردة أن ابن عمر رضي الله عنهما شهد رجلا يمانيا يطوف بالبيت ، حمل أمه وراء ظهره ، يقول : إني لها بعيرها المذلل ، أترانى جزيتها ؟ قال ابن عمر : لا ، ولا بزفرة واحدة .
الزفرة تردد النفس ، وهو مما يعرض للمرأة عند الولادة .
وقال عبد الله بن جعفر : سمعت بندارا – وهو من أئمة الحديث – يقول : أردت الخروج – يعني في طلب الحديث – فمنعتني أمي ، فأطعتها ، فبورك لي فيه ” .
قال الذهبي في “السير” (12/144) : ” جمع حديث البصرة ، ولم يرحل ، برا بأمه ، ثم رحل بعدها ” انتهى .
وقال جعفر الخلدي : ” كان الأبَّار – أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم (ت290هـ) – من أزهد الناس ، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة – يعني ليسمع الحديث – فلم تأذن له ، ثم ماتت ، فخرج إلى خراسان ، ثم وصل إلى بلخ وقد مات قتيبة ، فكانوا يعزونه على هذا ، فقال : هذا ثمرة العلم ، إني اخترت رضى الوالدة ” انتهى . “السير” (13/443)
وسئل الإمام ابن عساكر عن تأخره عن الرحلة إلى أصبهان ، فقال : ” استأذنت أمي في الرحلة إليها فما أذنت ” انتهى . “السير” (20/567) .
وقال بشر الحافي :
” الولد يَقرُبُ من أمه بحيث يَسمع أمَّه : أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله ، والنظر إليها أفضل من كل شيء ” انتهى . “التبصرة” ابن الجوزي (1/188)
هكذا كان حال سلفنا الصالح ، لا يقدمون على بر الوالدين عملا من الأعمال ، ولا يرون الدنيا كلها تعدل أن يَشعُرَ أحدهما بحاجته لابنه ثم لا يجده عنده .
فإذا كان بإمكانك الرجوع إلى والديك ، والبقاء في بلدهما ، ولا يصيبك بذلك ضرر كبير بسبب ترك عملك ، فاحرص على البر ، وأقدم على الخير ، ولا تتردد في ذلك ، فإن الله قد أمر بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات .
أما إن كان رضاهما يتحقق أكثر ببقائك في عملك ، وتحصيلك من المال ما تنفق عليهما به ، فاحتفظ بعملك ، واحرص على استغلال كل فرصة للسفر إليهما وقضاء الإجازات معهما ، وابتغ في كل ذلك رضى الله سبحانه وتعالى .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب