ما هو السبب الذى يجعل المسلم يُكِنُّ مشاعر الحب لقليل من المسلمين دون غيرهم ؟
شعور الحب نحو الناس يتفاوت
السؤال: 111957
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
للمسلم على المسلم حقوق كثيرة ، منها :
حق الأخوة الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ، فقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات/10
وله حق الولاية والنصرة المذكور في قوله سبحانه وتعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) التوبة/71
كما للمسلم على المسلم حق حب الخير له ، وإرادة السعادة والتوفيق من غير بغض ولا حسد ولا حقد .
عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) رواه البخاري (13) ومسلم (45)
وبقدر هذه الحقوق ينشأ في القلب قدر من المحبة لجميع المسلمين ، عربيهم وعجميهم ، قريبهم وبعيدهم ، أبيضهم وأسودهم ، يبعث عليه عقيدة التوحيد المشتركة بينهم ، وهي محبة تابعة لحب الله تعالى المغروس في قلب كل مسلم ، لأن من أحب شيئا أحب من أحبه أيضا .
ومع ذلك فتفاوت قدر محبة المسلم للمسلم ليس بمستغرب ولا مستنكر ، ولا حرج فيه شرعا ولا طبعا ، وذلك لسببين مهمين :
السبب الأول : تفاوت المسلمين في الصلاح والتقوى ، وتفاضلهم في مراتب الخُلُق والأدبِ والمروءات ، ولما كانت المحبة ناشئة أصلا بسبب التزام المسلم بأوامر الله ، تفاوتت هذه المحبة بحسب تفاوت الاستقامة من مسلم لآخر .
وهذا أمر مقرر معلوم ، ألا ترى أنه يجب على المسلم أن يحب جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجب عليه مع ذلك أن يخص العشرة المبشرين بالجنة بمزيد محبة وإجلال وتقدير ، وما ذلك إلا لتفاوت قدرهم عند الله تعالى .
السبب الثاني : قيام أسباب المحبة الأخرى في بعض المسلمين دون الآخرين ، فالمحبة ليست مقصورة على سبب واحد ، وهو الاستقامة على طاعة الله ، بل لها أسباب أخرى كثيرة : منها المناسبة بين قلب المحبوبين ، والمشاكلة الروحية بينهما ، والإحسان والمعروف من أهم أسباب قيام المحبة أيضا ، كما أن جمال الروح والصورة من أهم بواعث المحبة .
فإذا اجتمعت هذه الأسباب أو بعضها في أحد الناس عظمت محبته ، وقويت مودته ، وكان إلى القلوب أقرب من غيره .
ونحن ننقل هنا كلاما مفيدا للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله ، يشرح فيه دواعي المحبة وأسبابها ، وكيف تتفاوتت هذه الدواعي بين الناس ، فيقول رحمه الله :
” التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة ، فكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه ، وهذه المناسبة نوعان : أصلية من أصل الخلقة . وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور .
فإن من ناسب قصدُك قصدَه حصل التوافق بين روحك وروحه ، فإذا اختلف القصد زال التوافق .
فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق ، وتشاكل أرواح ، وشوق كل نفس إلى مشاكلها ، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع ، فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة ، فتنجذب إليه بالطبع .
وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال : إن العشق لا يقف على الحسن والجمال ، ولا يلزم من عدمه عدمه ، وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة ، كما قيل :
وما الحب من حسن ولا من ملاحة … ولكنه شيء به الروح تكلف
فحقيقته أنه مرآة يبصر فيها المحب طباعه ورقته في صورة محبوبة ، ففي الحقيقة لم يحب إلا نفسه وطباعه ومُشاكله .
ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات ، فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها ، بخلاف النفوس اللئيمة الدنية ، فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات ، وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرط عشقه ومحبته له ، واللذة التي يجدها في بذله ، كما قال المأمون : لقد حُبِّب إلي العفو حتى خشيت أن لا أؤجر عليه . وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : تعلمت هذا العلم لله ؟ فقال : أما لله فعزيز ، ولكن شيء حبب إلي ففعلته . وقال آخر: إني لأفرح بالعطاء وألتذ به أكثر وأعظم مما يفرح الآخذ بما يأخذه مني .
وأما عشاق العلم فأعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه ، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر .
وحدثني شيخنا – يعني ابن تيمية – قال : ابتدأني مرض ، فقال لي الطبيب : إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض . فقلت له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك ، أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض ؟ فقال : بلى . فقلت له : فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة . فقال : هذا خارج عن علاجنا أو كما قال .
فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت ، ولم يُزِلها إلا مانع أقوى من السبب .
وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض ، تزول عند انقضائه وتضمحل . وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها : أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم ، فقدمت المدينة ، فنزلت على امرأة تضحك الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على مَن نزلت فلانة ؟ قالت : على فلانة المضحكة. فقال : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف. وأصل الحديث في الصحيح .
وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد ، فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ، ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ” انتهى باختصار.
“روضة المحبين” (66-74)
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب