هل يسري الربا في العملات الورقية كما يسري في الذهب والفضة ؟
السؤال: 129043
قرأت أحد المقالات في جريدة الاقتصادية مفاده أن قياس النقود الورقية على الذهب والفضة غير صحيح ، وأن مجموعة من العلماء مع هذا الرأي ، وأن الربا فقط في الأصناف الستة كما ورد في الحديث : أرجو التفصيل أو ذكر مرجع في المعاملات الحديثة وجزاكم الله خيراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الذي يدل عليه النظر الصحيح ، وهو الذي عليه عامة العلماء المعاصرين : أن العملات
الورقية يجري فيها الربا قياساً على الذهب والفضة .
وذلك لأن الشرع حكم بجريان الربا في الذهب والفضة لأنهما أثمان الأشياء ، أي : كانا
هما العملة التي يتعامل بها الناس قديماً (الدراهم والدنانير) فكانت قيم الأشياء
تقدر بالذهب والفضة ، وقد حَلَّت هذه الأوراق النقدية محل الذهب والفضة في التداول
، فوجب أن يكون لها حكم الذهب والفضة .
وقد
جاء عن بعض الأئمة والعلماء المتقدمين ما يؤيد هذا .
جاء
في “المدونة” (3/5) :
”
قُلْت : أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَيْت فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ فَافْتَرَقْنَا قَبْلَ أَنْ
نَتَقَابَضَ قَالَ : لَا يَصْلُحُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا فَاسِدٌ ,
قَالَ لِي مَالِكٌ فِي الْفُلُوسِ : لَا خَيْرَ فِيهَا نَظِرَةً [أي : مع تأجيل
القبض] بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْوَرِقِ , وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا
بَيْنَهُمْ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ لَكَرِهْتُهَا أَنْ
تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً . قُلْت : أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَيْت
خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ خَاتَمَ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرَ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا
قَبْلَ أَنْ نَتَقَابَضَ أَيَجُوزُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ
هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يَجُوزُ فَلْسٌ
بِفَلْسَيْنِ , وَلَا تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا
بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً ” انتهى .
ومعنى هذا : أن الإمام مالك رحمه الله يرى أن الفلوس يجري فيها الربا كالذهب والفضة
، لأن الناس صاروا يتعاملون بها وصارت نقداً ، بل يرى أن الناس لو تعارفوا على جعل
الجلود نقوداً يتعاملون بها لكان لها حكم الذهب والفضة ، وهذا يشبه الأوراق النقدية
الآن ، فصار النقد من ورق ، والذي افترضه الإمام مالك أنه يكون من جلود .
فسبحان من وفق الإمام إلى هذا المثال !
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
“وَالْأَظْهَرُ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ هُوَ الثمنية ؛ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لَا
الْوَزْنُ …
وَالتَّعْلِيلُ بالثمنية تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى
مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا .
فَمَتَى بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ قُصِدَ بِهَا التِّجَارَةُ الَّتِي
تُنَاقِضُ مَقْصُودَ الثمنية ” انتهى بتصرف يسير .
“مجموع الفتاوى” (29/471-472) .
وقال ابن القيم :
”
وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين . وهذا مذهب أحمد
في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة . وطائفة قالت : العلة فيهما الثمنية . وهذا
قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى ، وهذا هو الصحيح ، بل الصواب ” انتهى .
“إعلام الموقعين” (2/156) .
وجاء في قرار “مجلس المجمع الفقهي” برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة الدورة
الخامسة قرار رقم (6) :
أولاً : إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة , وبناء على أن علة الربا
فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة .
وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة , وإن كان معدنهما هو الأصل
.
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا , وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها ,
وبها تقوم الأشياء في هذا العصر , لاختفاء التعامل بالذهب والفضة , وتطمئن , النفوس
بتمولها وادخارها , ويحصل الوفاء والإبراء العام بها , رغم أن قيمتها ليست في ذاتها
, وإنما في أمر خارج عنها , وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل , وذلك
هو سر مناطها بالثمنية .
وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية , وهي متحققة
في العملة الورقية , لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي يقرر أن العملة الورقية نقد
قائم بذاته , له حكم النقدين من الذهب والفضة , فتجب الزكاة فيها , ويجري الربا
عليها بنوعيه فضلا ونسيئة , كما يجرى ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماما ,
باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما . وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام
النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها .
ثانياً : يعتبر الورق النقدي نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة
وغيرهما من الأثمان , كما يعتبر الورق النقدي أجناسا مختلفة تتعدد بتعدد جهات
الإصدار في البلدان المختلفة . بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس , وأن الورق
النقدي الأمريكي جنس , وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته , وبذلك يجري فيها
الربا بنوعيه فضلا ونسيئة , كما يجري الربا بنوعية في النقدين الذهب والفضة وفي
غيرهما من الأثمان” انتهى .
وجاء في توصيات وفتاوى الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي :
“أ
– تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من أن هذه الأوراق قامت مقام الذهب
والفضة في التعامل بيعا وشراء وإبراء وإصداقاً , وبها تقدر الثروات وتدفع المرتبات
ولذا تأخذ كل أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز [التقابض] في مبادلة بعضها
ببعض وتحريم النَّسَاء [التأخير] فيها .
ب –
كل عملة من العملات جنس قائم بذاته . فلا يجوز ربا الفضل فيها عند العقد أو في
نهايته , سواء كانت معدنا أو ورقا إذا بيعت بمثلها , أما إذا بيعت عملة بعملة أخرى
فلا يشترط في ذلك إلا التقابض .
ج –
لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بها إلا يداً بيد” انتهى .
وجاء
في “أبحاث هيئة كبار العلماء” (1/85) .
” –
حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما ؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من
الأثمان كالفلوس والورق النقدي .
–
علة الربا في النقدين مطلق الثمنية .
وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة .
قال
أبو بكر من أصحاب أحمد : روى ذلك عن أحمد جماعة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم ” انتهى .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
”
العملة الورقية منزلة الذهب والفضة في جريان الربا في بيع بعضها ببعض ، وفي بيع
الذهب والفضة بها ” انتهى .
“مجموع فتاوى ابن باز” (19/158)
والخلاصة : أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ، كما أنها لا تجمع بين المختلفات
المتضادات ، فلما حكمت الشريعة بجريان الربا في الذهب والفضة لأنها أثمان الأشياء ،
وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى كل ما صار ثمناً للأشياء ، كالفلوس والأوراق النقدية .
ويمكنك مراجعة كتاب :
–
“فقه المعاملات الحديثة” د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.
–
“توظيف الأموال بين المشروع والممنوع” د. عبد الله بن محمد الطيار.
–
“قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي”.
وأما ما ذكرته من شبهة أن الربا في الأصناف الستة فقط ، فهو قول غير صحيح ، ومخالف
أيضا لما عليه جمهور أهل العلم (منهم : أئمة الفقه الأربعة) .
قال
الشيخ صالح الفوزان :
“قول جمهور العلماء : أن الربا يتجاوز هذه الأصناف الستة إلى غيرها مما شاركها في
العلة”.
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
“الأشياء التي يحرم فيها الربا هي : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ،
وما شارك هذه الأصناف الستة في علة الربا ، وهي في النقدين : الثمنية ، وفي بقية
الأصناف : الكيل مع الطعمية على الصحيح من أقوال العلماء” انتهى .
“فتاوى اللجنة الدائمة” (13/268) .
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟