أحد الزملاء قال لي : سبب عدم نزول المطر هو المناخ ، والحالة الجوية للمنطقة ، ولا علاقة للذنوب بهذا الأمر ! ، فقلت له : قول الله على لسان نوح ( فقلت استغفروا ربكم … ) الآيات ، لكنه لم يقتنع بالدليل الشرعي ، ورد بدليل عقلي قائلا : مكة ، والمدينة ، تعانيان من القحط ، بينما ” أبها ” ، ودول الشام لا ينقطع عنها المطر ، ولا أظن أن أهل الشام أقل ذنوباً من مكة ، والمدينة ، أما قصة نوح فربما لها تأويل آخر . السؤال : كيف أرد على زميلي بدليل عقلي ؟ وهل هو على خطر ؟ .
هل سبب القحط هو المعاصي والآثام أم الأحوال الجوية ؟!
السؤال: 130321
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
كما ذكرتَ لزميلك أن سبب حبس المطر هو الذنوب والمعاصي ؛ فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا يُرفع إلا بتوبة ، وهذا قد قرره الله تعالى في القرآن الكريم كثيراً , ومن ذلك :
قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/41 .
وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) الجن/16 .
وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف/ 96 .
قال ابن كثير رحمه الله :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أي : آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل ، وصدَّقت به ، واتبعته ، واتقوا بفعل الطاعات ، وترك المحرمات :
(لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) أي : قطر السماء ، ونبات الأرض .
قال تعالى : (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي : ولكن كذبوا رسلهم ، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم ، والمحارم .
“تفسير ابن كثير” (3/451) .
ومن السنَّة :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :
لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا .
وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ .
وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا .
وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ .
وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) .
رواه ابن ماجه (4155) ، وحسَّنه الألباني في “صحيح ابن ماجه” .
ومن أقوال السلف :
قال أبو هريرة رضي الله عنه :
إن الحباري – نوع من الطيور – لتموت في وكرها من ظلم الظالم .
وقال مجاهد رحمه الله : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَنَة – أي : القحط – وأمسك المطر , وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم .
وقال عكرمة رحمه الله :
دواب الأرض وهوامها ، حتي الخنافس ، والعقارب يقولون : مُنعنا القطر بذنوب بني آدم .
انظر ” الجواب الكافي ” لابن القيم ( ص 38 ) .
ومن أقوال المعاصرين :
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله – يذكِّر المسلمين بتأخر نزول المطر وسبب ذلك – :
فقد رأيتم الواقع ، وهو تأخر نزول الغيث عن إبانه ، وقحوط المطر وعدم مجيئه في أزمانه ، ولا ريب أن سبب ذلك هو معاصي الله ، ومخالفة أمره ، بترك الواجبات ، وارتكاب المحرمات .
فإنه ما من شرٍّ في العالم ، ولا فساد ، ولا نقص ديني ، أو دنيوي : إلا وسببه المعاصي ، والمخالفات ، كما أنه ما من خيرٍ في العالم ، ولا نعمة دينية ، أو دنيوية : إلا وسببها طاعة الله تعالى ، وإقامة دينه .
… .
فيا عباد الله : التوبة ، التوبة ! تفلحوا ، وتنجحوا ، وتستقيم أحوالكم ، وتصلحوا ، قال الله تعالى : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) هود/ 52 .
وارجعوا إلى ربكم ، بالتجرد ، والتخلص من حقوق الله التي له قبَلكم ، واخرجوا من جميع المظالم التي عند بعضكم لبعض ، وأكثروا من الاستغفار ، بقلب يقظان حاضر ، معترف بالذنوب ، مقر بالتقصير والعيوب ، وأديموا التضرع لرب الأرباب : يُدرَّ عليكم الرزق من السحاب .
” فتاوى الشيخ ابن إبراهيم ” ( 3 / 128 – 131 ) باختصار شديد .
ثانياً:
مما اتفق عليه العقلاء من جميع الأمم : أن المعاصي لها تأثير على واقع حياتهم ، وسبُل رزقهم , ومما يدل على ذلك : أن هؤلاء العقلاء يوصون باجتناب الظلم ؛ لما يعلمون من سرعة تعجيل عقابه , بل حتى العرب قبل الإسلام كانوا يحذرون عاقبة بعض المعاصي ، كالبغي ، والغدر ، والظلم .
والعقل يدل على مجازاة المحسن بالإحسان , وعلى مجازاة المسيء بالعقاب ، والحرمان ، ومثال ذلك : أنك تجد المعلِّم في المدرسة يثيب الطلبة المجتهدين بالجائزة ، والثناء , ويكون عكس ذلك للمقصرين , وهكذا صاحب العمل في عمله يشجع العامل المجتهد ، ويزيد له في أجره , وعلى عكس ذلك يكون الحال مع العامل المقصر .
ولله المثل الأعلى ، فهو سبحانه وتعالى ينبِّه عباده إلى الرجوع إليه ، والتوبة ، بمثل هذه السنن ، كالجفاف ، وتأخر المطر ، وضيق الرزق ؛ ليرجعوا إليه ، ويتركوا ما هم عليه من معاصٍ وآثام ، ولو حصل شيء من الرزق من السماء : فلأجل البهائم ! كما مرَّ في الحديث .
قال القرطبي رحمه الله :
وقد استسقى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى المصلَّى متواضعاً ، متذللاً ، متخشعاً ، مترسِّلاً ، متضرعاً ، وحسبك به ، فكيف بنا ، ولا توبة معنا ، إلا العناد ، ومخالفة رب العباد ، فأنَّى نُسقى ؟! لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر : ( وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِم إِلاَّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ البَهَائِم لَمْ يُمْطًروا ) الحديث .
” تفسير القرطبي ” ( 1 / 418 ) .
وإن رغد العيش ، ووفرة الماء ، قد يكون لبعض الناس ، والأمم ، بلاء ، واستدراجاً ، كما هو مشاهد في بلاد الغرب , وهذا مبلغهم من النعيم ، وقد عجلت لهم طيباتهم في الدنيا , وسيكون عليهم بسبب ذلك زيادة في العذاب في الآخرة .
قال تعالى : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) آل عمران/ 180 .
كما جاء ذلك مبيَّناً في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ نَزَعَ هَذِهِ الآيَةَ : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام/45 . رواه الطبراني في “الكبير” (17/330) ، وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (413) .
فتحصَّل مما سبق :
أنَّ حبس المطر عن قوم ، أو بلد : إنما هو بأمر الله تعالى ، ومهما كان له من الأسباب المادية : فإن الله تعالى هو من قدَّرها .
وإذا قدَّر الله تعالى المطر والرزق لبلد ، أو قوم عصاة غير تائبين ، أو كفار غير مسلمين : فلحكَم جليلة ، وأسباب عديدة ، منها : استدرجهم بالخيرات لزيادة العذاب عليهم يوم القيامة ، ومنها : أنه من أجل البهائم ، لا من أجلهم هم ، وإذا حصل ذلك : صارت البهائم حينئذٍ خيراً منهم .
قال المناوي رحمه الله :
أي : لم يُنزل إليهم المطر ؛ عقوبةً ، بشؤم منعهم للزكاة عن مستحقيها ، فانتفاعهم بالمطر إنما هو واقع تبعاً للبهائم ! فالبهائم حينئذ خيرٌ منهم ! وهذا وعيد شديد على ترك إخراج الزكاة أعظِم به من وعيد .
” فيض القدير ” ( 5 / 378 ، 379 ) .
ونرجو أن يكون ما ذكرناه نافعاً لصاحبك ، ولكل من قرأه .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب