أعرف أن من الأمور ما تكون حراماً ثم لظروف معينة تصير حلالاً بدافع الضرورة ، وقد وجدتُ رجلاً واسع العلم يقول لي : إن الحرام ينقلب حلالاً بدافع الحاجة أيضاً ، فهل هذا حقيقي ؟ وإلى أي مدى ؟ وما هي شروط تحقيق ذلك ؟ وأنا أسأل ذلك لما نواجهه في البلدان غير الإسلامية .
ليس كل حرام يباح للحاجة؟
السؤال: 130726
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
سبق الكلام على قاعدة “إباحة المحرم للضرورة” وبيان شروط ذلكفي جواب السؤال رقم (130815) .
أما إباحة المحرم للحاجة ، فهذا صحيح ، وله أمثلة جاء بها الشرع ، وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله .
والفرق بين الحاجة والضرورة : أن الضرورة ما يلحق الإنسان ضرر بعدمه ، ولا يوجد غيره يقوم مقامه . وأما الحاجة فهي ما يلحق الإنسان بتركه مشقة ، وقد يقوم غيره مقامه .
وقد ذكر العلماء شرطاً لإباحة المحرم للحاجة ، وهو :
أن يكون هذا المحرم محرماً تحريم الوسائل ، لا المقاصد .
وذلك أن المحرمات نوعان :
الأول : محرم تحريم مقاصد ، كأكل الميتة ، وشرب الخمر ، فهذا لا يباح للحاجة ، وإنما يباح للضرورة .
النوع الثاني : محرم تحريم وسائل ، كلبس الحرير ، وربا الفضل … فهذا يباح للحاجة .
قال أبو عبد الله الزركشي رحمه الله :
فالضرورة : بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل ، واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات ، أو تلف منه عضو ، وهذا يبيح تناول المحرم .
والحاجة : كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك ، غير أنه يكون في جهد ومشقة ، وهذا لا يبيح المحرَّم .
“المنثور في القواعد” (2/319) .
ومثال ذلك : جواز لبس الرجل لثوب حرير من أجل حكة به . وقد جاءت السنة بذلك .
مثال آخر : إباحة ربا الفضل للحاجة ، فقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر كيلاً ، مع أن الأصل تحريم هذه المعاملة ، لأنه لا يمكن حصول التساوي بين الرطب والتمر ، لأن الرطب ينقص إذا جف ، فتكون هذه الصورة داخلة في ربا الفضل ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص فيها للحاجة .
انظر : “إعلام الموقعين” (2/137) .
وقد نظم ذلك القول والمثال : الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه وقواعده ، فقال :
لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ … يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ
وقد شرح ذلك بقوله :
“هذا مستثنى من قوله : (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرم إلا عند الضرورة ، فاستثنى من ذلك ما كان محرماً للذريعة ، فإن حكمه حكم المكروه ، يجوز عند الحاجة .
مثاله : العَرِيَّة وهي : عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر ، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال : (أينقص إذا جف؟) قالوا : نعم ، فنهى عن ذلك .
ووجهه : أن بيع التمر بالتمر لابد فيه من التساوي ، ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان ، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل ، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري رطباً يتفكه به مع الناس ، لكن عنده تمر من العام الماضي ، فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم ، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى رطباً ففيه تعب عليه ، وربما ينقص ثمن التمر ، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط :
1- أن لا يتجاوز خمسة أوسق .
2- وأن لا يدع الرطب حتى يتمر .
3- وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً ، مثل أن يقال : هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله للمشتري .
4- وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر .
5- وأن يكون الرطب على رؤوس النخل ، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً .
فإذا قال قائل : ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء ، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه ، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم ، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً ، فلماذا نقول بالعَرِيَّة ، ولا نقول : بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟
فالجواب على هذا : أولاً : أن السنة فرقت بينهما ، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع ، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين ، ولا يجمع بين متفرقين ، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان ، فإن الخطأ في فهمنا ، فيكفي أن نقول : جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا ، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا ، فيقال : إن الصحابة رضي الله عنه كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل ، وهذا ربا صريح لا يحل .
أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر ، بمعنى : أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به .
ثانيا : أن نقول : إن ربا الفضل إنما حُرم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة ، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً ، بل لابد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل ، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدين إذا تأجل ، وتقول النفس : إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة ، والنقص يجوز لرداءة الصفة ، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء ، فترتقي النفس من هذا إلى هذا ، والنفس طماعة لا سيما في البيع والشراء ، ولا سيما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة ، لذلك سُدَّ الباب ، وقيل : لا يجوز ربا الفضل ، ولو مع التقابض في المجلس .
والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل ، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما يحرم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة ، والذي حرم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة .
فإن قال قائل : الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟
الجواب : ليس هناك ضرورة ، لأنه يمكن أن يعيش على التمر ، لكن هناك حاجة ، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس ، فلهذا رخِّص له في العرية .
مثال آخر : النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام ، لأنه وسيلة إلى الفاحشة ، ولهذا جاز للحاجة ، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته ، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها ، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأة بعينها ، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة ، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة .
مثال آخر : الحرير على الرجال حرام ، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة ، والتشبه بالنساء حرام ، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة ، فإذا كان الإنسان فيه حكة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحكة ، لأن تحريمه تحريم وسائل” انتهى .
“شرح منظومة أصول الفقه وقواعده” (ص 64 – 67) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة