معنى الذل والافتقار وكيف يحققهما العبد المسلم؟
السؤال: 130826
قرأت في كتاب “مدارج السالكين” لابن القيم : يحكى عن بعض العارفين : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها ، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام ، فلم أتمكن من الدخول ، حتى جئت باب الذل ، والافتقار ، فإذا هو أقرب باب إليه ، وأوسعه ، ولا مزاحم فيه ، ولا معوق ، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته : فإذا هو سبحانه قد أخد بيدي ، وأدخلني .
” مدارج السالكين ” .
فما هو الذل ، والافتقار ، المقصود هنا الذي يوصل لهذا المقام العظيم ؟ يعني : هل يوجد في عبادة بعينها أكثر من أي عبادة ؟ فوالله محتاجون ، ضعفاء إيماناً .
والله المستعان .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
الحكمة من خلق الإنسان هي : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات/ 56 .
وأركان العبادة هي : كمال الذل والخضوع ، مع كمال المحبة ، لله تعالى .
قال
ابن القيم رحمه الله :
وعبادة الرحمن غاية حبه ** مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ** ما دار حتى قامت القطبان
”
النونية ” ( ص 35 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله أيضاً – :
والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب ، بغاية الذل والخضوع , والعرب تقول : ” طريق
معبَّد ” أي : مذلَّل ، والتعبد : التذلل والخضوع ، فمن أحببتَه ولم تكن خاضعاً له
: لم تكن عابداً له , ومن خضعت له بلا محبة : لم تكن عابداً له ، حتى تكون محبّاً
خاضعاً .
”
مدارج السالكين ” ( 1 / 74 ) .
وانظر جواب السؤال رقم : (
48973 ) .
فتحقيق الذل إذاً يكون بتحقيق العبودية لله تعالى وحده ، والعبد ذليل لربه تعالى في
ربوبيته ، وفي إحسانه إليه .
قال
ابن القيم – رحمه الله – :
فإن
تمام العبودية هو : بتكميل مقام الذل والانقياد ، وأكمل الخلق عبودية : أكملهم
ذلاًّ لله ، وانقياداً ، وطاعة ، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل ،
فهو ذليل لعزِّه ، وذليل لقهره ، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه ، وذليل لإحسانه إليه ،
وإنعامه عليه ؛ فإن مَن أحسن إليك : فقد استعبدك ، وصار قلبُك معبَّداً له ،
وذليلاً ، تعبَّدَ له لحاجته إليه على مدى الأنفاس ، في جلب كل ما ينفعه ، ودفع كل
ما يضره .
”
مفتاح دار السعادة ” ( 1 / 289 ) .
قد
يظهر الذل في عبادة أعظم منه في عبادة أخرى , وأعظم العبادات التي فيها عظيم الذل
والخضوع لله هي : الصلاة المفروضة , والصلاة ذاتها تختلف هيئاتها وأركانها في مقدار
الذل والخضوع فيها ، وأعظم ما يظهر فيه ذل العبد وخضوعه لربه تعالى فيها : السجود .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
لفظ
” السجود ” ، فإنه إنما يستعمل في غاية الذل والخضوع ، وهذه حال الساجد .
”
جامع الرسائل ، رسالة في قنوت الأشياء ” ( 1 / 34 ) .
ثانياً :
أما
الافتقار إلى الله فهو مقام عالٍ يصل إليه العبد من طرق كثيرة ، لعل أبرزها :
العبودية ، والدعاء ، والاستعانة والتوكل .
1.
فإذا تحصَّل العبدُ على مقام الذل لربه تعالى : ظهر مقام الافتقار ، وعلم أنه لا
غنى له عن ربه تعالى ، بل صار مستغنٍ بربه عن غيره ، فكمال الذل ، وكمال الافتقار :
يَظهران في تحقيق كمال العبودية للرب تعالى .
قال
ابن القيم رحمه الله :
سئل
محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه ، والاستغناء به ، فقال : ”
إذا صح الافتقار إلى الله تعالى : صحَّ الاستغناء به ، وإذا صح الاستغناء به : صحَّ
الافتقار إليه ، فلا يقال أيهما أكمل : لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر ” .
قلت
: الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه ، وهما عبارتان عن معنى واحد ؛ لأن كمال الغنى
به هو كمال عبوديته ، وحقيقة العبودية : كمال الافتقار إليه من كل وجه ، وهذا
الافتقار هو عين الغنى به .
”
طريق الهجرتين ” ( ص 84 ) .
2.
ومما يظهر فيه مقام الافتقار إلى الله تعالى : الدعاء ، وخاصة بوصف حال الداعي ،
كما قال موسى عليه السلام : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ ) النمل/ 24 ، وكما قال تعالى عن أيوب عليه السلام : ( وَأَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
الأنبياء/ 83 , وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ
أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ ، عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى
كُلَّهُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) رواه أبو داود (5090) ، وحسَّنه الألباني في
“صحيح أبي داود” .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
والمقصود هنا : الكلام أولاً في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه ، واحتياجه
إليه ، أي : في أن يشهد ذلك ، ويعرفه ، ويتصف معه بموجب ذلك ، من الذل ، والخضوع ،
والخشوع ، وإلا فالخلق كلهم محتاجون ، لكن يظن أحدهم نوع استغناء ، فيطغى ، كما قال
تعالى ( كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَِآهُ اسْتَغْنَى ) .
”
مجموع الفتاوى ” ( 1 / 50 ) .
3.
ومما يظهر فيه مقام الافتقار إلى الله تعالى : حين يستعين العبد بربه ويتوكل عليه .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
إذا
تبين هذا : فكلما ازداد القلب حبّاً لله : ازداد له عبودية ، وكلما ازداد له عبودية
: ازداد له حبّاً ، وفضَّله عما سواه ، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين : من
جهة العبادة الغائية ، ومن جهة الاستعانة والتوكل ، فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ،
ولا ينعم ، ولا يسر ، ولا يلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن ، إلا بعبادة ربه
وحبه ، والإنابة إليه ، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات : لم يطمئن ، ولم
يسكن ؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ، ومحبوبه ، ومطلوبه ، وبذلك يحصل
له الفرَح ، والسرور ، واللذة ، والنعمة ، والسكون ، والطمأنينة .
وهذا لا يحصل له إلا باعانة الله له ؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله ،
فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .
”
العبودية ” ( ص 97 ) .
والعبد مفتقر إلى الله تعالى في كل شيء ، في خلقه ووجوده وفي استمراره وحياته ، وفي
علومه ومعارفه ، وفي هدايته وأعماله ، وفي جلب أي نفع له ، أو دفع أي ضرر له ، وهذا
هو معنى : “لا حول ولا قوة إلا بالله” .
نسأل الله تعالى أن يغنينا بالافتقار إليه .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
![answer](/_next/image?url=%2F_next%2Fstatic%2Fmedia%2Fanswer.91a384f1.png&w=64&q=75)
موضوعات ذات صلة