من المعلوم أن الله يطبع على قلب الكافر فلا يرى الحق , أو يرى الباطل حقا , ولكن هل يمكن أن يطبع الله عز وجل على قلب مسلم , وكيف يكون ذلك , وما دلالاته , وهل لذلك علاج .
بارك الله فيكم ونفعنا بكم وبعلمكم .
هل قلب المسلم يُطبع عليه كما يطبع على قلب الكافر ؟
السؤال: 140643
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
الطبع على القلوب يكون على قلوب الكفار ، وعلى قلوب المسلمين العاصين ، فأما الطبع على قلوب الكفار : فهو طبعٌ على القلب كله ، وأما الطبع على قلوب المسلمين العاصين : فيكون طبعاً جزئيّاً ، بحسب معصيته ، وفي كل الأحوال ليس الطبع ابتداء من الرب تعالى ، بل هو عقوبة لأولئك المطبوع على قلوبهم ، أولئك بما كفروا ، والآخرون بما عصوا ، كما قال تعالى في حق الكفار : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) النساء/ 155 .
ثانياً:
من الطبع الوارد في الشرع في حق عصاة المسلمين :
1. الطبع بسبب كثرة الذنوب والمعاصي على العموم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .
رواه الترمذي ( 3334 ) وقال : حسن صحيح ، وحسَّنه الألباني .
والريْن هو الطبع .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
عن مجاهد في قوله ( بل ران على قلوبهم ) قال : ثبتت على قلوبهم الخطايا حتى غمرتها .
انتهى
والران ، والرين : الغشاوة ، وهو كالصدأ على الشيء الصقيل .
… .
عن مجاهد قال : كانوا يرون الرين هو الطبع .
” فتح الباري ” ( 8 / 696 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله – :
الذنوب إذا تكاثرت : طُبع على قلب صاحبها ، فكان من الغافلين ، كما قال بعض السلف في قوله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) قال : هو الذنب بعد الذنب ، وقال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب ، حتى قال : وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية ، فاذا زادت : غلب الصدأ حتى يصير راناً ، ثم يغلب حتى يصير طبْعاً ، وقفلاً ، وختماً ، فيصير القلب في غشاوة وغلاف ، فاذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة : انتكس ، فصار أعلاه أسفله ، فحينئذ يتولاه عدوه ، ويسوقه حيث أراد .
” الجواب الكافي ” ( ص 139 ) .
2. التعرض لفتن الشهوات ، والشبهات .
عن حُذَيْفَة قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) .
رواه مسلم ( 144 ) .
مرباداً : الذي في لون رُبدة ، وهي بين السواد والغبرة .
كالكوز مجخياً : كالإناء المائل عن الاستقامة والاعتدال .
قال النووي – رحمه الله – :
قال القاضي رحمه الله – أي : القاضي عياض – : شبَّه القلب الذى لا يعي خيراً : بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه .
وقال ” صاحب التحرير ” – وهو محمد بن إسماعيل الأصبهاني – : معنى الحديث : أن الرجل إذا تبع هواه ، وارتكب المعاصي : دخل قلبَه بكل معصية يتعاطاها : ظلمةٌ ، وإذا صار كذلك : افتُتن ، وزال عنه نور الإسلام ، والقلب مثل الكوز ، فإذا انكب : انصب ما فيه ، ولم يدخله شيء بعد ذلك .
” شرح مسلم ” ( 2 / 173 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله – :
والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها ، وهي فتن الشهوات ، وفتن الشبهات ، فتن الغي والضلال ، فتن المعاصي والبدع ، فتن الظلم والجهل ، فالأولى : توجب فساد القصد والإرادة ، والثانية : توجب فساد العلم والاعتقاد .
” إغاثة اللهفان ” ( 1 / 12 ) .
3. الطبع بسبب التخلف عن صلاة الجمعة .
أ. عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ) .
رواه الترمذي ( 500 ) وأبو داود ( 1052 ) والنسائي ( 1369 ) وابن ماجه ( 1126 ) .
قال ابن الجوزي – رحمه الله – :
أَصْلُ الطَّبْعِ : الوَسَخُ ، والدَّرَنُ ، ويحتمل أَنْ يُراد به : الخَتْمُ عَلَى القَلْبِ ، حَتَّى لاَ يَفْهَمَ الصَّوابَ .
” غريب الحديث ” ( 2 / 26 ، 27 ) .
والمعني الثاني هو الأظهر عند عامة الشرَّاح .
قال السيوطي :
قال الباجي : معنى الطبع على القلب : أن يُجعل بمنزلة المختوم عليه ، لا يصل إليه شيء من الخير .
” تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ” ( 1 / 102 ) .
وقال المباركفوري – رحمه الله – :
قوله ( تهاوناً بها ) قال العراقي : المراد بالتهاون : الترك عن غير عذر ، والمراد بالطبع : أنه يصير قلبُه قلبَ منافق . انتهى .
” تحفة الأحوذي ” ( 3 / 11 ) .
ب. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ ) .
رواه مسلم ( 865 ) .
قال الصنعاني – رحمه الله – :
( لينتهين أقوام عن وَدْعهم ) بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة أي : تركهم الجمعات .
( أو ليختمن الله على قلوبهم ) الختم : الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه ؛ كتماً له ، وتغطية ؛ لئلا يتوصل إليه ، ولا يطلع عليه ، شبهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحق واستكبارهم عن قبوله وعدم نفوذ الحق إليها : بالأشياء التي استوثق عليها بالختم ، فلا ينفذ إلى باطنها شيء ، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله ، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى .
( ثم ليكونن من الغافلين ) بعد ختمه تعالى على قلوبهم ، فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال ، وعن ترك ما يضرهم منها .
وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها .
وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان بالكلية .
” سبل السلام ” ( 2 / 45 ) .
ومعنى ” من باب تيسير العسرى ” : من بخل بطاعة ربه ، وتأخر عنها : صار ذلك الكسل والتأخر عن الطاعة عادة ملازمة له ، يسهل عليه إتيانها ، ويشق عليه تركها ، وهي طريق موصلة للعسرى . قال ابن كثير رحمه الله :
” فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى أي: لطريق الشر، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 11]، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عز وجل يُجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان . وكل ذلك بقدر مُقدّر . ” انتهى . “تفسير ابن كثير” (8/417) .
والخلاصة :
أن الناس أربعة أصناف : كافر ، ومنافق ، ومؤمن ، ومسلم عاصٍ ، ولكل واحدٍ من أولئك قلبه الخاص به ، ومن طبع عليه من الكفار والمنافقين : فهو طبع كلي ، لا يدخل إليهم نور الإسلام ، ولا يخرج منهم ظلمة الكفر ، وأما الطبع على قلب المسلم العاصي : فهو بحسب ما ارتكب من ذنوب يكون حاله ، وهو دائر بين قلبين ، وقد يصل حاله لقلب المنافق – أو الكافر – ، وذلك بحسب زيادة المعاصي تأثير المعاصي في قلبه ، وتكاثرها عليه .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
وقد قسَّم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوبَ إلى أربعة ، كما صح عن حذيفة بن اليمان : ” القلوب أربعة : قلب أجرد ، فيه سراج يُزهِر ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب منكوس ، فذلك قلب المنافق ، عَرفَ ثم أنكر ، وأبصر ثم عمى ، وقلبٌ تُمِدُّه مادتان : مادة إيمان ، ومادة نفاق ، وهو لما غلب عليه منهما ” .
فقوله : ” قلب أجرد ” أي : متجرد مما سوى الله ورسوله ، فقد تجرد وسلِم مما سوى الحق ، و ” فيه سراج يزهر ” وهو مصباح الإيمان ، فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل ، وشهوات الغي ، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه ، واستنارته بنور العلم ، والإيمان .
وأشار بالقلب الأغلف : إلى قلب الكافر ؛ لأنه داخل في غلافه ، وغشائه ، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان ، كما قال تعالى حاكياً عن اليهود : ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) البقرة/ 88 ، وهو جمع أغلف ، وهو الداخل في غلافه ، كقُلف وأقلف ، وهذه الغشاوة هي الأكِنَّة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة لهم على رد الحق ، والتكبر عن قبوله ، فهي أكنة على القلوب ، ووقْر في الأسماع ، وعمًى في الأبصار ، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ) الإسراء/ 45 ، 46 ، فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا
وأشار بالقلب المنكوس ، وهو المكبوب : إلى قلب المنافق ، كما قال تعالى : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ) النساء/ 88 ، أي : نكسهم ، وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم ، وأعمالهم الباطلة ، وهذا شر القلوب ، وأخبثها ؛ فإنه يعتقد الباطل حقّاً ، ويوالي أصحابه ، والحقَّ باطلاً ، ويعادي أهله ، فالله المستعان .
وأشار بالقلب الذي له مادتان : إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ، ولم يزهر فيه سراجه ، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله ، بل فيه مادة منه ، ومادة من خلافه ، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان ، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر ، والحكم للغالب ، وإليه يرجع .
” إغاثة اللهفان ” ( 1 / 12 ، 13 ) .
ثالثا :
ليعلم أن معرفة أسباب النجاة من ذلك البلاء ، وفك قفل القلوب ، وفتحها لأسباب الهدى : ليعلم أن ذلك هو أهم ما ينبغي للعبد أن يصرف همته إليه ، فإن ذلك هو نجاته في الدنيا والآخرة .
وقد مر معنا في حديث أبي هريرة : (فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ ) ؛ فهذا أول ما يعمل العبد إذا أراد لنفسه النجاة : أن يعلم الذنب الذي أتي من قبله ، والباب الذي دخل عليه البلاء منه ، ثم يطهر نفسه من رجس ذلك الذنب ، ويغلق عن نفسه باب ذلك البلاء .
وفي الحديث الآخر ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا : نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) رواه مسلم (144) .
فقد بين أن صمود القلب أمام ما يطرقه من فتن الشبهات والشهوات ، وثباته في مواقف الفتن : هو من أعظم أسباب هدايته ، وحفظ صحته ، وأن تعرضه للفتن ، واستجابته لها : هو من أعظم أسباب ضلاله وفساد حاله .
وفوق ذلك كله ، وقبل ذلك كله ، وأيضا : بعد ذلك كله : أن يلازم الافتقار إلى من بيده مقاليد كل شيء : أن يزيل عنه ما أصابه ، وأن يفتح قلبه للهدى والنور .
قال ابن القيم رحمه الله :
” ومما ينبغي أن يعلم : أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان ؛ بأن يفَك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفلَ ، ذلك الختمَ والطابع والقفل ، ويهديه بعد ضلاله ، ويعلمه بعد جهله ، ويرشده بعد غيه ، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده ، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر : لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان . وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) وعنده شاب فقال : ( اللهم عليها أقفالها ، ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك ) ، فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا . وكان عمر يقول في دعائه : ( اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ) …
والمقصود : أنه مع الطبع والختم والقفل ، لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل ؛ يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء .
وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه ، وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له ؛ كما أن شرب الدواء مقدور له ، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور ، فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له ، لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء ، وإن كان غير مقدور له ، ولكن لما ألف العلة وساكنها ، ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها ، مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت : فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية …
فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به ، وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره ، ومضرة هذا وشره : فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية .
فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه ، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه ، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال ، وسأل الله أن يُقبِل بقلبه ، وأن يقيه شر نفسه : وفَّقَه وهداه ، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال ، وأنه مرض قاتل ، إن لم يشفه منه أهلكه : لكانت كراهته وبغضه إياه ، مع كونه مبتلي به ، من أسباب الشفاء والهداية ؛ ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال : محبته له ورضاه به ، وكراهته الهدى والحق .
فلو أن المطبوع على قلبه ، المختوم عليه ، كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه ، وفعل مقدوره : لكان هداه أقرب شيء إليه ، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك ، وسؤال الرب فكه وفتح قلبه ” . انتهى .
” شفاء العليل” ، لابن القيم (192-193) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب