ما حكم الصيام كل يوم ؟
السؤال: 144592
هل من الجيد الصيام كل يوم ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الصيام كل يوم – عدا الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين – يُسَمَّى في الاصطلاح
الشرعي ” صوم الدهر “، أو ” صوم الأبد “، وقد اختلف أهل العلم في حكمه على أقوال ،
حتى اختلف أصحاب المذهب الواحد في المسألة ، ووقع الاضطراب في النقل عن المعتمد في
المذاهب لهذا السبب .
والذي يتبين أن الخلاف في المسألة – بالإجمال – جاء على قولين :
القول الأول : ينهى عن صوم الدهر مطلقا ، إما على وجه الكراهة ، كما هو مذهب الحنفية ، واختيار ابن قدامة ، وابن تيمية من الحنابلة خلافا للمذهب ، وهو
اختيار اللجنة الدائمة للإفتاء (23/221) ، أو على وجه التحريم ، كما ذهب إليه ابن
حزم .
جاء
في ” الدر المختار ” (2/84) من كتب الحنفية :
”
والمكروه تنزيها كصوم دهر ” انتهى بتصرف يسير.
ويقول ابن الهمام الحنفي :
”
يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له ، ومبنى العبادة على مخالفة العادة ”
انتهى.
”
فتح القدير ” (2/350)
يقول ابن قدامة رحمه الله :
”
الذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام – يعني العيد والتشريق -,
فإن صامها قد فعل محرما , وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف , وشبه
التبتل المنهي عنه ” انتهى.
”
المغني ” (3/53)
ويقول ابن حزم رحمه الله :
”
لا يحل صوم الدهر أصلا ” انتهى.
”
المحلى ” (4/41)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي :
1-
قوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ )
رواه البخاري (1977) ومسلم (1159)
2-
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
(
جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ يَسأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ،
فَلَمَّا أُخبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا ، فَقَالًوا : وأَينَ نَحنُ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ؟ قَد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُم : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي
أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهرَ وَلَا أُفطِرُ
، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنتُمُ الَّذِينَ
قلُتُم كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخشَاكُم للَّهِ وَأَتقَاكُم لَه
، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ،
فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي )
رواه البخاري (5063) ومسلم (1401)
فدل
قوله صلى الله عليه وسلم ( لكني أصوم وأفطر…فمن رغب عن سنتي فليس مني ) على أن
صيام الدهر مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
3-
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كَيْفَ
بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَالَ : لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ) رواه مسلم
(1162)
4-
وعن
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ
تَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ
! قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ ، صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ
عَلَيْكَ حَقًّا …إلى آخر الحديث . وفي رواية : فَقُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ) رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)
وقد
أجاب المخالفون لهذا القول عن أدلته بما أجاب به الإمام النووي رحمه الله حيث يقول
:
”
أحدها : جواب عائشة رضي الله عنها وتابعها عليه خلائق من العلماء ، أن المراد : من
صام الدهر حقيقة ، بأن يصوم معه العيد والتشريق , وهذا منهي عنه بالإجماع .
والثاني : أنه – يعني حديث ( لا صام من صام الأبد ) – محمول على أن معناه أنه لا
يجد من مشقته ما يجد غيره ; لأنه يألفه ويسهل عليه ، فيكون خبرا لا دعاء , ومعناه
لا صام صوما يلحقه فيه مشقة كبيرة , ولا أفطر ، بل هو صائم له ثواب الصائمين .
والثالث : أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوت به حقا , ويؤيده أنه في حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص كان النهي خطابا له , وقد ثبت عنه في الصحيح أنه عجز في
آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة , وكان يقول : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه
يضعف عن ذلك , وأقر حمزة بن عمرو – سيأتي حديثه فيما بعد – لعلمه بقدرته على ذلك
بلا ضرر ” انتهى.
”
المجموع ” (6/443)، وانظر: ” فتح الباري ” (4/222-224)، وانظر: ” الموسوعة الفقهية
” (28/16) وإن لم يكن نقل أقوال المذاهب في هذه المسألة محررا.
القول الثاني : يستحب صوم الدهر ، وهو قول المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، أما
المالكية والشافعية فقد صرحوا بالاستحباب ، وأما الحنابلة فنصوصهم جاءت بلفظ الجواز
. والاستحباب مقيد عند الجميع بأن لا يؤدي صوم الدهر إلى تقصير في أداء الحقوق
والواجبات ، أو يخاف الصائم ضررا على نفسه ، فإن أدى لذلك فيكره حينئذ عند الشافعية
والحنابلة ، ويجوز عند المالكية .
جاء
في ” مواهب الجليل ” (2/443) من كتب المالكية :
” (
وصوم دهر ) يعني أنه جائز ، وهل هو الأفضل أو الأفضل خلافه ، قال مالك سرد الصوم
أفضل . قال ابن رشد : معنى كلام مالك أن سرد الصوم أفضل إذا لم يضعف بسببه عن شيء
من أعمال البر ” انتهى باختصار.
وجاء في ” المنهاج ” للإمام النووي :
”
وصوم الدهر – غير العيد والتشريق – مكروه لمن خاف به ضررا أو فوت حق، ومستحب لغيره
” انتهى.
”
تحفة المحتاج ” (3/459)
وجاء في ” كشاف القناع ” من كتب الحنابلة (2/342)
” (
ويجوز صوم الدهر ولم يكره إذا لم يترك به حقا ولا خاف ضررا ، ولم يصم هذه الأيام )
الخمسة يومي العيدين وأيام التشريق، ( فإن صامها فقد فعل محرما ) ” انتهى.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي :
1-
عموم الآيات والأحاديث الدالة على فضل العبادة وعمل الخير ، ومنها قوله تعالى : (
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الأنعام/160.
2-
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ صَامَ
يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ
خَرِيفًا
) رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153)
وأجيب عن هذين الدليلين بأنهما عامَّان في كل صيام ، وقد جاءت الأدلة السابقة
بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب .
3-
عَن
أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ
صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَقَبَضَ كَفَّهُ
)
رواه أحمد في ” المسند ” (32/484)
قال
النووي رحمه الله :
”
ومعنى : ( ضيقت عليه ) أي : عنه ، فلم يدخلها ” انتهى.
”
المجموع ” (6/442)
وأجيب عنه بضعفه مرفوعا ، فقد صحح المحدثون المتقدمون ، والمحققون في طبعة مؤسسة
الرسالة وقفَه على أبي موسى .
4-
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ! إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ :
صُمْ إِنْ شِئْتَ ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ . رواه مسلم (1121)، وموضع الدلالة أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم .
5-
ما ورد من متابعة بعض الصحابة رضوان الله عليهم للصوم ، ومن ذلك :
يقول النووي رحمه الله : “عن ابن عمر أنه سئل عن صيام الدهر فقال : ( كنا نعد أولئك
فينا من السابقين ) رواه البيهقي .
وعن
عروة أن عائشة ( كانت تصوم الدهر في السفر والحضر ) رواه البيهقي بإسناد صحيح. وعن
أنس قال : ( كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو ,
فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرا إلا يوم الفطر أو الأضحى ) رواه
البخاري في صحيحه ” انتهى. ” المجموع ” (6/443)
وقد
أجاب ابن حزم عن حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وغيره من الصحابة الذين ورد أنهم كانوا
يسردون الصوم : بأن سرد الصوم ليس هو صيام الدهر كله ، وإنما هو متابعة الصيام
لأشهر طويلة حتى يقال : لا يفطر ، ولكن ليس صيام العام كله ، وروى عن بعض الصحابة
كعمر بن الخطاب رضي الله عنه النهي الصريح عن صيام الدهر .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
”
تعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر ، ولا يلزم من سرد
الصيام صوم الدهر ، فقد قال أسامة بن زيد إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد
الصوم فيقال لا يفطر . أخرجه أحمد ، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر ” انتهى.
”
فتح الباري ” (4/223)
والخلاصة :
أن
الذي يظهر رجحانه هو القول الأول ، القاضي بكراهة صيام الدهر والمنع منه ، وذلك
لقوة أدلتهم وصراحتها ، أما أدلة القول الثاني فهي لا دلالة فيها صريحة ، كما أن
العلماء أجابوا عنها بما سبق نقله .
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟