عندي سؤالان لو سمحت :
1. لاحظت في جامعتي أن بعض الإخوة لا يصلون خلفي ، ويخرجون من المصلى عندما أقدم لأصلي بالقوم ، عندما سألتهم عن ذلك أجابوا – وهم أحناف ، صوفية – : ” لأنك تمسح على الجوربين (من الصوف) ، ونحن نقول بأن وضوء المرء لا يجزئ إذا مسح على الجوربين ” (يعني لابد أن يكون من جلد) هل هذا مبرر لهم لأن يتخلفوا عن هذه الجماعة ويصلون عندما أنتهي أنا من الصلاة ؟ .
2. ثم هناك طائفة أخرى من الأحناف – وليسوا من الصوفية- يأبون الصلاة مع الجماعة عندما نصلي العصر في أول الوقت ، ويجلسون خلفنا حتى يدخل وقتهم .
السؤال : هل لهم أن يفعلوا ذلك ؟ أم الأولى أن يلتحقوا مع الجماعة وإن اختلفنا في بعض مسائل الفقه ( مع الأدلة المناسبة أفادكم الله ورعاكم ) .
يتركون الصلاة خلف إمام مسجدهم لمخالفتهم له في بعض مسائل الصلاة والطهارة
السؤال: 147193
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
أما بخصوص المسح على الجوربين : فقد سبق في جواب السؤال رقم (13954) أنه لا يشترط أن يكون الجوربان الممسوح عليهما من الجلد ، والمسألة من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء .
وأما بخصوص وقت صلاة العصر : فقد ثبت في السنَّة الصحيحة تحديد ابتداء وقت العصر ، وأنه يكون بانتهاء وقت الظهر ، أي : عند مصير ظل كل شيء مثله .
وقد سبق في جواب السؤال رقم (9940) بيان مواقيت الصلوات الخمس بالتفصيل في بدايتها وانتهائها ، وذكر أدلة ذلك من السنة الصحيحة .
ثانياً :
أما ترك الصلاة مع الإمام لمخالفته في بعض الفروع الاجتهادية فليس تصرفاً صحيحاً .
وهذا الفعل من الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الفرقة والاختلاف بين المسلمين ، وينبغي أن تحرصوا على الاجتماع واتفاق الكلمة ، لا سيما وأنتم تقيمون في دولة غربية وليست دولة إسلامية ، فتنازعكم هذا يعطي صورة مشوهة عن الإسلام .
وهاهم علماء المذهب الحنفي يأتون من مشارق الأرض ومغاربها إلى بلاد الحرمين للحج والعمرة ، ويصلون خلف الإمام مع علمهم أنه يخالفهم في بعض الفروع ، وأنهم يصلون العصر إذا صار ظل شيء مثله ، ولا ينتظرون حتى يدخل وقت الصلاة على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، لعلمهم أن هذه المسائل الاجتهادية لا تمنع الاقتداء بالإمام المخالف فيها.
فضلاً عن أن السنة قد دلت على أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله ، فليس لأحد أن يتعصب لقول إمامه كائناً من كان ، ويترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيل نافع في مسألة صلاة أهل المذاهب خلف بعضهم بعضاً ، وسنذكره بطوله لما فيه من فائدة .
فقد سئل رحمه الله :
عن أهل المذاهب الأربعة : هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض ؟ أم لا ؟ وهل قال أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض ؟ ومن قال ذلك فهل هو مبتدع ؟ أم لا ؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته معه صحيحة والمأموم يعتقد خلاف ذلك ، مثل أن يكون الإمام تقيأ ، أو رعف ، أو احتجم ، أو مسَّ ذكَرَه ، أو مسَّ النساء بشهوة ، أو بغير شهوة ، أو قهقه في صلاته ، أو أكل لحم الإبل وصلَّى ولم يتوضأ والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك ، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة ، أو لم يتشهد التشهد الآخر ، أو لم يسلِّم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك ، فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه ؟ وإذا شُرط في إمام المسجد أن يكون على مذهب معين فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولي ، فهل يجوز ذلك ؟ وهل تصح الصلاة خلفه ؟ أم لا ؟ .
فأجاب :
، نعم ، تجوز صلاة بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها ، ولم يقل أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض ، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ، وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم : منهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها ، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها ، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت ، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومنهم من يتوضأ مِن مسِّ الذكَر ومسِّ النساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومنهم من يتوضأ من القهقهة في صلاته ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومع هذا : فكان بعضهم يصلي خلف بعض : مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلُّون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرّاً ولا جهراً ، وصلَّى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد ، وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له : فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلِّي خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك .
وبالجملة : فهذه المسائل لها صورتان :
إحداهما : أن لا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة : فهنا يصلِّي المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم ، وليس في هذا خلاف متقدم ، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين : فزعم أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح وإن أتى بالواجبات ؛ لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها ، وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه ؛ فإنه ما زال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه يصلي بعضهم ببعض ، وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون بل يصلون الصلاة الشرعية ، ولو كان العلم بهذا واجباً لبطلت صلوات أكثر المسلمين ولم يمكن الاحتياط فإن كثيراً من ذلك فيه نزاع وأدلة ذلك خفية وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف وهو لا يجزم بأحد القولين ، فإن كان الجزم بأحدهما واجباً فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك ، وهذا القائل نفسه ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء ، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك ، ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا فإنه ليس من أهل الاجتهاد .
الصورة الثانية : أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده : مثل أن يمس ذكَرَه أو النساء لشهوة أو يحتجم أو يفتصد أو يتقيأ ، ثم يصلي بلا وضوء : فهذه الصورة فيها نزاع مشهور ، فأحد القولين : لا تصح صلاة المأموم ؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه ، كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
والقول الثاني : تصح صلاة المأموم ؛ وهو قول جمهور السلف ، وهو مذهب مالك ، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي وأحمد ، بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا ، وهذا هو الصواب ؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يُصلُّون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم ) ، فقد بيَّن صلَّى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم ، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له وأنه لا إثم عليه فيما فعل فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد ، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه فهو يعتقد صحة صلاته وأنه لا يأثم إذا لم يعدها بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه بل كان ينفذه ، وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده : فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمأموم قد فعل ما وجب عليه : كانت صلاة كل منهما صحيحة ، وكان كلٌّ منهما قد أدى ما يجب عليه وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة .
وقول القائل : إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام : خطأ منه ؛ فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه ، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه وأن لا تبطل صلاته لأجل ذلك ، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلَّم الإمام خطأ واعتقد المأموم جواز متابعته فسلم كما سلم المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سلَّم من اثنتين سهواً مع علمهم بأنه إنما صلَّى ركعتين ، وكما لو صلَّى خمساً سهواً فصلوا خلفه خمساً كما صلَّى الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا صلَّى بهم خمساً فتابعوه مع علمهم بأنه صلى خمساً ؛ لاعتقادهم جواز ذلك فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده ، وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلَّم خطأً : لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه ، ولو صلَّى خمساً لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه فدلَّ ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم ، والله أعلم” انتهى .
” مجموع الفتاوى ” ( 23 / 373 – 379 ) .
وانظر جواب السؤال رقم (106431 ) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة