كيف نوفق بين روايتين عن النبي صلي الله عليه وسلم : من ناحية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يقف الصحابة له ، ومن ناحية أخرى كان يتركهم يقبلون يده وقدمه .
وكما عرفت من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُحل مثل ذلك أم أنني مخطئ ؟ ولأنني أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتكب يوماً خطأ ، وكان يقطع كل طرق الشرك ، ولكننا اليوم نرى الصوفية يقبِّلون يد وقدم شيوخهم ، فكيف نقيم الحجة عليهم من الحديث على مثل هذا ؟ وهل ما يفعله الصوفية صحيح أم خطأ ؟ أم أنه لا خطأ في ذلك لأنني قرأت هنا على هذا الموقع أن هذا قد تم في عدد من المناسبات ، فهل من خطأ في هذا ؟ .
أرجو أن تشرحوا الأمر .
هل ثمة تعارض بين كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للقيام له وبين رضاه بتقبيل يده ؟
السؤال: 147755
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
يزول الإشكال عند الأخ السائل إذا علم الفرق بين ما كان عادة متكررة ، وما كان أحياناً لسبب .
فرؤية الصحابة لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم كانت متكررة في كل يوم ، ولم يكونوا يقومون له عند رؤيته لما كانوا يعلمونه من كراهيته لذلك .
عن أَنَسٍ قَالَ : لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ .
رواه الترمذي ( 2754 ) وصححه ، وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي ” .
وكان أصحابه رضي الله عنهم يصافحونه في كثير من المناسبات واللقاءات ، ولم يكونوا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ولا رجله ، وهذا هو هدي أصحابه الذين يرونه ويلتقون به عادة وغالباً ، ولا يتعارض هذا مع تقبيل بعض الصحابة يده ، أو رجله – مع ترددنا في إثبات تقبيل صحابي لرِجله الشريفة – لسبب اقتضى ذلك ، كأن يكونوا حديثي إسلام ، أو قدموا من ديارهم ورأوه لأول مرة ، وغير ذلك من الأسباب التي تدفع لتقبيل يده ورجله الشريفتين .
وأما سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك منهم فلأن ما فعلوه ليس حراماً ، والذي يظهر لنا أنه كان من باب تأليف قلوبهم ، وكانوا هم المبادرين بتقبيل يده الشريفة ، لا أنه يمدها لهم ، وكراهيته صلى الله عليه وسلم لقيام أصحابه له عند رؤيته ليس فيه استثناء ، وهو فعل الأعاجم والأباطرة ، بخلاف تقبيل اليد فإنه علامة تقدير ومحبة ، ولذا لم يختلف أهل العلم في جواز تقبيل الأولاد أيدي والديهم ، ووضعوا شروطاً لتقبيل يد غيرهما ، وهو يدل على أن هناك فروقا بين القيام عند الرؤية ، وبين تقبيل اليد .
ومما يدل على ما ذكرناه من التفريق :
أ. عن أُمّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ – وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ – قَالَ : لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَرِجْلَهُ .
رواه أبو داود ( 5227 ) ، وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في ” فتح الباري ” ( 11 / 57 ) ، وحسَّنه الألباني في ” صحيح أبي داود ” وقال : ” حسنٌ ، دون ذِكر الرِّجْلين ” .
والحديث بوَّب عليه أبو داود بقوله : ” بَاب فِي قُبْلَةِ الرِّجْلِ ” .
ب. وعن هود بن عبد الله بن سعد قال : سمعت مزيدة العبدي يقول : وفدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فنزلتُ إليه فقبلتُ يده .
رواه البخاري في ” الأدب المفرد ” ( 587 ) ، وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في ” فتح الباري ” ( 11 / 57 ) وضعفه الألباني في ” ضعيف الأدب المفرد ” .
فهؤلاء ليسوا ممن يرى النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم ، بل هم قدموا من سفر ، ولم يتكرر منهم هذا الفعل بعدها كلما رأوه صلى الله عليه وسلم ؛ بل إن الظاهر أن الأمر لم يكن لمجرد التقدير والاحترام ، بل كان الغالب على هؤلاء الوافدين الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي أحبوه ، بل آمنوا به واتبعوه ، ولم يروه .
وهذا أقوى ما جاء في السنَّة من تقبيل الصحابة رضي الله عنهم ليد النبي صلى الله عليه ورجله ، وهما كما رأيت : كلاهما في قدوم أقوام إلى المدينة وفرحهم بإسلامهم ورؤيتهم لأول مرة لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، وذِكر ” الرِّجل ” في الحديث الأول في ثبوتها تردد ، والحديث الثاني في ثبوته كله تردد ، وبه تعلم حال الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يكونوا كلما رأوه قاموا له ، ولا كلما صافحوه قبلوا يده ، والاستثناء في تقبيل اليد قد علمت حال ثبوته ، وممن كان فِعله .
ثانياً:
وأما شيوخ الصوفية : فأمرهم مختلف ، حيث يبادرون إلى مدِّ أيديهم لمريدهم لتقبيلها ، وتراهم يرضون عمن يقبلها ، ويغضبون عمن يترك تقبيلها ، وهذا ممنوع بالاتفاق ، وحاشا هذا أن يكون هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا – أيضاً – هدي العلماء الربانيين المهتدين بهديه .
وبمثل هذا التفريق والفقه في المسألة قال أئمة الإسلام :
1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :
ولم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يقوموا للنبي صلى الله عليه وسلم ، لما كانوا يعلمون من كراهته لذلك ، ولا كان يقوم بعضهم لبعض … .
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا السنَّة في ترك القيام المتكرر للقاء … .
فأما تقبيل اليد : فلم يكونوا يعتادونه إلا قليلاً … .
وأما ابتداء مدِّ اليد للناس ليقلبوها وقصده لذلك : فيُنهى عن ذلك بلا نزاع ، كائناً مَن كان ، بخلاف ما إذا كان المقبِّل المبتدىء بذلك .
” مختصر الفتاوي المصرية ” ( 2 / 26 ، 27 ) .
2. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – :
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقوه – صلى الله عليه وسلم – يصافحونه ، ولا يقبلون يده ، وربما قبَّل يدَه بعضُ الصحابة بعض الأحيان ، ولكنها أحوال قليلة ، والمشهور عنهم – رضي الله عنهم- : المصافحة ، وهذا هو الأكثر ، وتقبيل يده أو قدمه : إنما هو شيء قليل ، جاء في بعض الأحاديث لأسباب ، فعله بعض الصحابة عند قدومه من السفر ،
فالحاصل : أن السنَّة الغالبة هي المصافحة عند السلام واللقاء، أما تقبيل اليد : إذا فُعل بعض الأحيان : فلا حرج فيه لمصلحة شرعية ، أما اتخاذه عادة : فهو خلاف السنَّة .
” فتاوى نور على الدرب ” ( شريط رقم 488 ) .
3. وقال الشيخ الألباني – رحمه الله – :
وأما تقبيل اليد ، ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة ، يدل مجموعها على ثبوت ذلكعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط
الآتية :
1 – أن لا يتخذ عادة ، بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته ، و يتطبع هؤلاءعلى التبرك بذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن قبلت يده فإنما كان ذلكعلى الندرة ، وما كان كذلك فلا يجوز أن يجعل سنة مستمرة ، كما هو معلوم منالقواعد الفقهية .
2 – أن لا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره ، ورؤيته لنفسه ، كما هو الواقعمع بعض المشايخ اليوم .
3 – أن لا يؤدي ذلك إلى تعطيل سنة معلومة ، كسنة المصافحة ، فإنها مشروعة بفعلهصلى الله عليه وسلم وقوله ، وهي سبب تساقط ذنوب المتصافحين ، كما روي في غير ماحديث واحد ، فلا يجوز إلغاؤها من أجل أمر ، أحسن أحواله أنه جائز . ” السلسلة الصحيحة ” (1/1/302ـ تحت حديث رقم160) .
ثالثاً:
مثل هؤلاء شيوخ الصوفية لا يشك أحد أن ما يفعلونه من مد يدهم لمريديهم ليس شرعيّاً ، مع ما فيه من ذلة للتابع ، وفتنة للمتبوع .
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – :
ما حكم تقبيل اليد خاصة : ولد لوالده ، أو تلميذ لشيخه ؟ .
فأجاب :
تقبيل اليد احتراماً لمن هو أهل للاحترام كالأب والشيخ الكبير والمعلم : لا بأس به ، إلا إذا خيف من الضرر : وهو أن الذي قُبِّلت يدُه يعجب بنفسه ويرى أنه في مقامٍ عالٍ ، فهنا نمنعها لأجل هذه المفسدة .
” لقاء الباب المفتوح ” ( 177 / السؤال رقم 14 ) .
2. وقال علماء اللجنة الدائمة :
” ما ذكر من تقبيل يدي الشيخ ورجليه وسقوطهم عليها للتقبيل وهو واقف ، وإلصاق جباههم بأيدي الشيخ – من الغلو في تعظيم المخلوق ، ولم يعرف ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا مع الخلفاء الراشدين ، وقد يكون ذلك ذريعة إلى الشرك الأكبر ” انتهى .
“فتاوى اللجنة الدائمة” (2 / 69)
3. وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
” قد صح عنه صلى الله عليه وسلم تقبيل بعض الناس ليده صلى الله عليه وسلم . ولم ينكر ذلك عليهم ، فدل على جواز تقبيل يد العالم . وقد فعل ذلك السلف مع أفاضلهم ، وفيه عدة آثار تراها في كتاب ” القبل والمعانقة ” لأبي سعيد ابن الأعرابي تلميذ أبي داود وفي ” الأدب المفرد ” للبخاري ( ص 142 ) .
لكن ليس معنى ذلك أن يتخذ العلماء تقبيل الناس لأيديهم عادة ، فلا يلقاهم أحد إلا قبل يدهم – كما يفعل هذا بعضهم – فإن ذلك خلاف هديه صلى الله عليه وسلم قطعا ، لأنه لم يفعل ذلك معه إلا القليل من الصحابة الذين لا يعرفون هديه صلى الله عليه وسلم وما هو أحب إليه كالمصافحة . ولذلك لم يرد أن المقربين منه العارفين به مثل أبي بكر وغيره من العشرة المبشرين بالجنة كانوا يقبلون يده الشريفة ، وهذا خلاف ما عليه بعض المشايخ ، ولو لم يكن في عادتهم هذه إلا تقبيح السنة القولية والعملية التي حض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهي المصافحة لكفى .
ومن العجيب أن بعضهم يغضب أشد الغضب إذا لم تقبل يده ، وما هو إلا شيء جائز فقط ، ولا يغضب مطلقا إذا تركت المصافحة مع أنها مستحبة وفيها أجر كبير ، وما ذلك إلا من آثار حب النفس واتباع الهوى . نسأل الله الحماية والسلامة ” انتهى .
“سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” (2 / 44) ، حديث رقم (574) .
4. وقال الشيخ عبد الله بن عقيل :
” لم يكن من عادة الصحابة – رضوان اللَّه عليهم – تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أيدي خلفائه الراشدين ، ولا شك أنهم من أعظم الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوقيرا له ، وإنما كانوا يعتادون السلام عليه والمصافحة ؛ اتباعًا لما سنه لهم صلى الله عليه وسلم بأمره وفعله .
وأما ما ورد أنه لما قدم عليه أصحابه من غزوة مؤتة قبلوا يده ، وما جاء في معنى هذا ، فإن ثبت فإنما وقع نادرا جدا .
وقد جوزه بعض الأئمة ، كالإمام أحمد إذا وقع ذلك ، لا على وجه التعظيم للدنيا ، واشترط بعض الأئمة في ذلك أن لا يمد إليه اليد ليقبلها ، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه .
وذهب بعضهم إلى كراهية تقبيل اليد مطلقا ، كالإمام مالك رحمه اللَّه وقال سليمان بن حرب : هي السجدة الصغرى .
وهذا إذا لم يُفضِ إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة .
أما إذا اقترن بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع ، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه . واللَّه أعلم ” انتهى .
“فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل” (2 / 185) .
ولتتمة الفائدة في هذه مسألة تقبيل اليد : نرجو النظر في أجوبة الأسئلة (130154 ) و (20243 ) و (133487 ) .
ولتتمة الفائدة في هذه مسألة القيام للقادم : نرجو النظر في أجوبة الأسئلة (13776 ) و (34851 ) و (34497 ) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة