0 / 0

ابنتها تدأب على إيذائها وتجريحها ، فهل عليها حرج في هجرها وخصامها ؟

السؤال: 148033

أمي مريضة ، وعمرها 82 سنت متدينة وتخاف الله ولا تريد عصيانه ، لي أخت منذ عدة سنوات تتخاصم مع أمي ، وتجرحها بالكلام السيئ ، فقامت أمي وطردتها من المنزل ، وطلبت منها مقاطعتها نهائيا !!
مرت على هذه الحادثة سنتان ، وأمي لا تنام خائفة من عقاب الله ، مع العلم أن أختي تحاول العودة لأمي ، لكن لم تطلب منها السماح ، فقط تريد المجيء للمصلحة !!
أمي تقول إنها لن تستطيع سماحها ولا حتى رؤيتها ، من المعاملة السيئة جدا والكلام الجارح الذي سمعته منها آخر مرة ؛ فهل على أمي ذنب إذا لم تستطع مسامحتها ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
فرض الله على العبد بر والديه ، ونهاه عن عقوقهما ، ووعد على البر أعظم الأجر ، وتوعد على العقوق بالحرمان والخسر .
وقد روى النسائي (3104) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ . فَقَالَ : ( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ) قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا ) . صححه الألباني في “صحيح النسائي”.
فمن كانت الجنة تحت قدمه ، فرضوان الله في رضا قلبه .
ينظر جواب السؤال رقم : ( 5326 ) ، ( 30893 ) ، (22782 ) .
ثانيا :
الأصل العام وجوب التواصل والمحبة بين المؤمنين ، وخاصة ذوي القربى وأولي الأرحام ، وتحريم التهاجر والتقاطع والتدابر بينهم ؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ ) . رواه البخاري (5727) ومسلم (2560) .
وعن أبي خراش السلمي رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ) . رواه أبو داود ( 4915 ) وصححه الألباني في “صحيح أبي داود” .
يراجع لذلك جواب السؤال رقم : (4631) ، (65500) .

رابعا :
إذا ترتب على هجر المعين من المسلمين مصلحة راجحة ، أو خيف من مواصلته مضرة في الدين أو الدنيا ؛ فيشرع الهجر تحصيلا للمصلحة ، أو دفعا للمضرة الناشئة من مواصلته ؛ ففي حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا عند البخاري (4418) ومسلم (2769) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كلامهم ، فاجتنبهم الناس وتغيروا لهم ، حتى كان أحدهم يلقي السلام على أحب الناس إليه فما يرد عليه ؛ حتى أدبهم الله ، وأدب بهم الأمة كلها ، وكان من وراء هذا الهجر الفضل الكبير والمصلحة الراجحة .
وقد روى البخاري (6075) أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ : وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا !!
فَقَالَتْ : أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ !! قَالَتْ : هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا !!
فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ ، فَقَالَتْ : لَا وَاللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا ، وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي !!
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ ، وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي .
فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَا : السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، أَنَدْخُلُ ؟
قَالَتْ عَائِشَةُ : ادْخُلُوا .
قَالُوا : كُلُّنَا ؟!
قَالَتْ : نَعَم ، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ . وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ !!
فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي ، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ ، وَيَقُولَانِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ .
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ : إِنِّي نَذَرْتُ ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ .
فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ ، وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً ، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا !!

قال الحافظ رحمه الله :
” رَأَتْ عَائِشَة أَنَّ اِبْن الزُّبَيْر اِرْتَكَبَ بِمَا قَالَ أَمْرًا عَظِيمًا وَهُوَ قَوْله لَأَحْجُرَن عَلَيْهَا , وَلَمْ يَكُنْ أَحَد عِنْدَهَا فِي مَنْزِلَته , فَكَأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ فِي ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ نَوْع عُقُوق , وَالشَّخْص يَسْتَعْظِم مِمَّنْ يَلُوذ بِهِ مَا لَا يَسْتَعْظِمهُ مِنْ الْغَرِيب , فَرَأَتْ أَنَّ مُجَازَاته عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ مُكَالَمَته , كَمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَام كَعْب بْن مَالِك وَصَاحِبَيْهِ عُقُوبَة لَهُمْ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَة تَبُوك بِغَيْرِ عُذْر , وَلَمْ يَمْنَع مِنْ كَلَام مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مُؤَاخَذَة لِلثَّلَاثَةِ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتهمْ وَازْدِرَاء بِالْمُنَافِقِينَ لِحَقَارَتِهِمْ , فَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَة . وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هَجْر الْوَالِد وَلَده وَالزَّوْج زَوْجَته وَنَحْو ذَلِكَ لَا يَتَضَيَّقُ بِالثَّلَاثِ , وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا , وَكَذَلِكَ مَا صَدَرَ مِنْ كَثِير مِنْ السَّلَف فِي اِسْتِجَازَتهمْ تَرْك مُكَالَمَة بَعْضهمْ بَعْضًا مَعَ عِلْمهمْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُهَاجَرَة ” انتهى .

وقال العراقي رحمه الله في “طرح التثريب” (8 / 353) :
” قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَفِي حَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَهْجُرَ الْمَرْءُ أَخَاهُ إذَا بَدَتْ لَهُ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَوْ فَاحِشَةٌ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هِجْرَانُهُ تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : فَأَمَّا الْهِجْرَانُ لِأَجْلٍ الْمَعَاصِي وَالْبِدْعَةِ فَوَاجِبٌ اسْتِصْحَابُهُ إلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ ، أَوْ يُوَلِّدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَضَرَّةً فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُ فِي مُجَانَبَتِهِ وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ ” انتهى .

وقال علماء اللجنة الدائمة :
” لا يجوز هجر المسلم إلا إذا ارتكب محرما ونصح فلم يقبل ، إذا كان في الهجر مصلحة راجحة بأن يردعه عن فعله ” انتهى .
“فتاوى اللجنة الدائمة” (26 / 106-107)

وقال ابن عثيمين رحمه الله :
” الهجر دواء ؛ إن كان يرجى نفعه فليفعل وإن لم يرجَ نفعه فلا يفعل ؛ لأن الأصل أن هجر المؤمن محرم ، والعاصي من المؤمنين لا يرتفع عنه اسم الإيمان ، فيكون هجره في الأصل محرما ، لكن إذا كان في هجره مصلحة ، لكونه يستقيم ويدع ما يوجب فسقه ؛ فإنه يهجر وإلا فلا . هذا هو الضابط في الهجر الذي تجتمع فيه الأدلة ” انتهى .
“فتاوى نور على الدرب” (21 / 19)

وقال الشيخ الفوزان حفظه الله :
” إذا كان الهجر لأجل معصية ارتكبها ذلك المهجور ، وكانت هذه المعصية من كبائر الذنوب ولم يتركها فإنه يجب مناصحته وتخويفه بالله عز وجل ، وإذا لم يمتنع عن فعل المعصية ولم يتب فإنه يُهجَر ؛ لأن في الهجر تعزيرًا له وردعًا له لعله يتوب ، إلا إذا كان في هجره محذور ؛ بأن يُخشى أن يزيدَ في المعصية ، وأن يترتب على الهجر مفسدة أكبر : فإنه لا يجوز هجره في هذه الحالة ، فهجر العاصي إنما يجوز إذا كان من ورائه مصلحة ولا يترتب عليه مضرة أكبر ” انتهى .
“المنتقى من فتاوى الفوزان” (20 / 1) .

والحاصل : أنه إذا كان الدافع لأمك لأن تهجر أختك ما وقع منها من الإساءة والتجريح لأمك ، فهذا هجر مشروع ؛ لأن ما فعلته هو كبيرة من أعظم الكبائر وأشنعها ، وأخطرها على دين صاحبها ، ولا تلام أمكم على ما فعلت من ذلك .
لكن لو أمكنك أنت وباقي إخوتك أن تتدخلوا ، وتعرفوا أمكم أن عفوها عن ابنتها خير لها ، وأصلح عند الله ، وخير ـ كذلك ـ لابنتها ، وأن تعظوا أختكم ، وتنصحوها في الله ، وتبينوا لها خطر ما فعلته مع أمها ، وأنها يجب عليها أن تعتذر لها ، وتستسمحها ، وتجتهد في الإحسان إليها ، بما يطيب قلبها عليه ، إذا أمكنكم ذلك ، فافعلوا ، فهو أمر عظيم : أمر إصلاح ذات البين ، لا سيما بين أم وابنتها ، وتأملي اجتهاد الصحابة في الإصلاح بين عائشة وابن أختها عبد الله بن الزبير ، ورجائهم لها في ذلك .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى/39-42 .

والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android