أمي مريضة ، وعمرها 82 سنت متدينة وتخاف الله ولا تريد عصيانه ، لي أخت منذ عدة سنوات تتخاصم مع أمي ، وتجرحها بالكلام السيئ ، فقامت أمي وطردتها من المنزل ، وطلبت منها مقاطعتها نهائيا !!
مرت على هذه الحادثة سنتان ، وأمي لا تنام خائفة من عقاب الله ، مع العلم أن أختي تحاول العودة لأمي ، لكن لم تطلب منها السماح ، فقط تريد المجيء للمصلحة !!
أمي تقول إنها لن تستطيع سماحها ولا حتى رؤيتها ، من المعاملة السيئة جدا والكلام الجارح الذي سمعته منها آخر مرة ؛ فهل على أمي ذنب إذا لم تستطع مسامحتها ؟
ابنتها تدأب على إيذائها وتجريحها ، فهل عليها حرج في هجرها وخصامها ؟
السؤال: 148033
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
فرض الله على العبد بر والديه ، ونهاه عن عقوقهما ، ووعد على البر أعظم الأجر ، وتوعد على العقوق بالحرمان والخسر .
وقد روى النسائي (3104) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ . فَقَالَ : ( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ) قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا ) . صححه الألباني في “صحيح النسائي”.
فمن كانت الجنة تحت قدمه ، فرضوان الله في رضا قلبه .
ينظر جواب السؤال رقم : ( 5326 ) ، ( 30893 ) ، (22782 ) .
ثانيا :
الأصل العام وجوب التواصل والمحبة بين المؤمنين ، وخاصة ذوي القربى وأولي الأرحام ، وتحريم التهاجر والتقاطع والتدابر بينهم ؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ ) . رواه البخاري (5727) ومسلم (2560) .
وعن أبي خراش السلمي رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ) . رواه أبو داود ( 4915 ) وصححه الألباني في “صحيح أبي داود” .
يراجع لذلك جواب السؤال رقم : (4631) ، (65500) .
رابعا :
إذا ترتب على هجر المعين من المسلمين مصلحة راجحة ، أو خيف من مواصلته مضرة في الدين أو الدنيا ؛ فيشرع الهجر تحصيلا للمصلحة ، أو دفعا للمضرة الناشئة من مواصلته ؛ ففي حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا عند البخاري (4418) ومسلم (2769) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كلامهم ، فاجتنبهم الناس وتغيروا لهم ، حتى كان أحدهم يلقي السلام على أحب الناس إليه فما يرد عليه ؛ حتى أدبهم الله ، وأدب بهم الأمة كلها ، وكان من وراء هذا الهجر الفضل الكبير والمصلحة الراجحة .
وقد روى البخاري (6075) أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ : وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا !!
فَقَالَتْ : أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ !! قَالَتْ : هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا !!
فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ ، فَقَالَتْ : لَا وَاللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا ، وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي !!
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ ، وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي .
فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَا : السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، أَنَدْخُلُ ؟
قَالَتْ عَائِشَةُ : ادْخُلُوا .
قَالُوا : كُلُّنَا ؟!
قَالَتْ : نَعَم ، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ . وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ !!
فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي ، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ ، وَيَقُولَانِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ .
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ : إِنِّي نَذَرْتُ ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ .
فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ ، وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً ، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا !!
قال الحافظ رحمه الله :
” رَأَتْ عَائِشَة أَنَّ اِبْن الزُّبَيْر اِرْتَكَبَ بِمَا قَالَ أَمْرًا عَظِيمًا وَهُوَ قَوْله لَأَحْجُرَن عَلَيْهَا , وَلَمْ يَكُنْ أَحَد عِنْدَهَا فِي مَنْزِلَته , فَكَأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ فِي ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ نَوْع عُقُوق , وَالشَّخْص يَسْتَعْظِم مِمَّنْ يَلُوذ بِهِ مَا لَا يَسْتَعْظِمهُ مِنْ الْغَرِيب , فَرَأَتْ أَنَّ مُجَازَاته عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ مُكَالَمَته , كَمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَام كَعْب بْن مَالِك وَصَاحِبَيْهِ عُقُوبَة لَهُمْ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَة تَبُوك بِغَيْرِ عُذْر , وَلَمْ يَمْنَع مِنْ كَلَام مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مُؤَاخَذَة لِلثَّلَاثَةِ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتهمْ وَازْدِرَاء بِالْمُنَافِقِينَ لِحَقَارَتِهِمْ , فَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَة . وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هَجْر الْوَالِد وَلَده وَالزَّوْج زَوْجَته وَنَحْو ذَلِكَ لَا يَتَضَيَّقُ بِالثَّلَاثِ , وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا , وَكَذَلِكَ مَا صَدَرَ مِنْ كَثِير مِنْ السَّلَف فِي اِسْتِجَازَتهمْ تَرْك مُكَالَمَة بَعْضهمْ بَعْضًا مَعَ عِلْمهمْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُهَاجَرَة ” انتهى .
وقال العراقي رحمه الله في “طرح التثريب” (8 / 353) :
” قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَفِي حَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَهْجُرَ الْمَرْءُ أَخَاهُ إذَا بَدَتْ لَهُ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَوْ فَاحِشَةٌ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هِجْرَانُهُ تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : فَأَمَّا الْهِجْرَانُ لِأَجْلٍ الْمَعَاصِي وَالْبِدْعَةِ فَوَاجِبٌ اسْتِصْحَابُهُ إلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ ، أَوْ يُوَلِّدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَضَرَّةً فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُ فِي مُجَانَبَتِهِ وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ ” انتهى .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
” لا يجوز هجر المسلم إلا إذا ارتكب محرما ونصح فلم يقبل ، إذا كان في الهجر مصلحة راجحة بأن يردعه عن فعله ” انتهى .
“فتاوى اللجنة الدائمة” (26 / 106-107)
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
” الهجر دواء ؛ إن كان يرجى نفعه فليفعل وإن لم يرجَ نفعه فلا يفعل ؛ لأن الأصل أن هجر المؤمن محرم ، والعاصي من المؤمنين لا يرتفع عنه اسم الإيمان ، فيكون هجره في الأصل محرما ، لكن إذا كان في هجره مصلحة ، لكونه يستقيم ويدع ما يوجب فسقه ؛ فإنه يهجر وإلا فلا . هذا هو الضابط في الهجر الذي تجتمع فيه الأدلة ” انتهى .
“فتاوى نور على الدرب” (21 / 19)
وقال الشيخ الفوزان حفظه الله :
” إذا كان الهجر لأجل معصية ارتكبها ذلك المهجور ، وكانت هذه المعصية من كبائر الذنوب ولم يتركها فإنه يجب مناصحته وتخويفه بالله عز وجل ، وإذا لم يمتنع عن فعل المعصية ولم يتب فإنه يُهجَر ؛ لأن في الهجر تعزيرًا له وردعًا له لعله يتوب ، إلا إذا كان في هجره محذور ؛ بأن يُخشى أن يزيدَ في المعصية ، وأن يترتب على الهجر مفسدة أكبر : فإنه لا يجوز هجره في هذه الحالة ، فهجر العاصي إنما يجوز إذا كان من ورائه مصلحة ولا يترتب عليه مضرة أكبر ” انتهى .
“المنتقى من فتاوى الفوزان” (20 / 1) .
والحاصل : أنه إذا كان الدافع لأمك لأن تهجر أختك ما وقع منها من الإساءة والتجريح لأمك ، فهذا هجر مشروع ؛ لأن ما فعلته هو كبيرة من أعظم الكبائر وأشنعها ، وأخطرها على دين صاحبها ، ولا تلام أمكم على ما فعلت من ذلك .
لكن لو أمكنك أنت وباقي إخوتك أن تتدخلوا ، وتعرفوا أمكم أن عفوها عن ابنتها خير لها ، وأصلح عند الله ، وخير ـ كذلك ـ لابنتها ، وأن تعظوا أختكم ، وتنصحوها في الله ، وتبينوا لها خطر ما فعلته مع أمها ، وأنها يجب عليها أن تعتذر لها ، وتستسمحها ، وتجتهد في الإحسان إليها ، بما يطيب قلبها عليه ، إذا أمكنكم ذلك ، فافعلوا ، فهو أمر عظيم : أمر إصلاح ذات البين ، لا سيما بين أم وابنتها ، وتأملي اجتهاد الصحابة في الإصلاح بين عائشة وابن أختها عبد الله بن الزبير ، ورجائهم لها في ذلك .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى/39-42 .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة