سب الدين في حال الغضب ومراتب الغضب
السؤال: 149150
إذا غضب شخص واشتد به الغضب ، وحصل منه سبّ للدين . فما حكمه ؟ وإن كان متزوجاً فما حكم زوجته منه إذا كان بهذا قد خرج عن الإسلام؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
“هذه مسألة عظيمة ولها شأن خطير ، فسب الدين من أعظم الكبائر والنواقض للإسلام ،
فإن سب الدين ردّة عند جميع أهل العلم ، وهو شر من الاستهزاء ، قال الله تعالى : (قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة/65 ، 66 .
وكانت جارية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تسب
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقتلها سيدُها لما لم تتب ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : (ألا اشهدوا أن دمها هدر) .
فسب الدين يوجب الردة عن الإسلام ، وسب الرسول صلى
الله عليه وسلم كذلك يوجب الردة عن الإسلام ، ويكون صاحبه مُهْدَر الدم ، وماله
لبيت المال ، لكونه مرتداً أتى بناقض من نواقض الإسلام ، لكن إذا كان عن شدة غضب
واختلال عقله فله حكم آخر .
والغضب عند أهل العلم له ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى :
أن يشتد غضبه حتى يفقد عقله ، وحتى لا يبقى معه
تمييز من شدة الغضب . فهذا حكمه حكم المجانين والمعاتيه ؛ لا يترتب على كلامه حكم ،
لا طلاقه ، ولا سبه ، ولا غير ذلك ، ويكون كالمجنون لا يترتب عليه حكم .
المرتبة الثانية :
دون ذلك ، أن يشتد معه الغضب ويغلب عليه الغضب جداً
حتى يغير فكره ، وحتى لا يضبط نفسه ويستولي عليه استيلاءً كاملاً ، حتى يصير
كالمكره والمدفوع الذي لا يستطيع التخلص مما في نفسه ، لكنه دون الأول ، فلم يَزُلْ
شعوره بالكلية ، ولم يفقد عقله بالكلية ، لكن معه شدة غضبٍ ، بأسباب المسابة
والمخاصمة والنزاع بينه وبين بعض الناس كأهله أو زوجته أو ابنه أو أميره أو غير ذلك
.
فهذا اختلف فيه العلماء ؛ فمنهم من قال : حكمه حكم
الصاحي وحكم العاقل ؛ فتنفذ فيه الأحكام ، فيقع طلاقه ، ويرتد بسبّه الدين ، ويحكم
بقتله وردته ، ويُفرَّق بينه وبين زوجته . ومنهم من قال : يُلحق بالأول الذي فقد
عقله ؛ لأنه أقرب إليه ، ولأن مثله مدفوع مكره إلى النطق ، لا يستطيع التخلص من ذلك
لشدة الغضب .
وهذا قول أظهر وأقرب ، وأن حكمه حكم من فقد عقله في
هذا المعنى ، أي في عدم وقوع طلاقه ، وفي عدم ردْته ؛ لأنه يشبه فاقد الوعي بسبب
شدة غضبه واستيلاء سلطان الغضب عليه حتى لم يتمكن من التخلص من ذلك .
واحتجوا على هذا بقصة موسى عليه الصلاة والسلام ،
فإنه لما وجد قومه على عبادة العجل اشتد غضبه عليهم ، وجاء وألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه من شدة الغضب ، فلم يؤاخذه الله لا بإلقاء الألواح ، ولا بجر أخيه
هارون وهو نبي مثله ، ولو ألقاها تهاوناً بها وهو يعقل لكان هذا عظيماً ، ولو جر
إنسان النبي بلحيته أو رأسه وآذاه لصار هذا كفراً .
لكن
لما كان موسى في شدة الغضب العظيم لله عز وجل على ما جرى من قومه سامحه الله ، ولم
يؤاخذه بإلقاء الألواح ولا بجر أخيه .
هذه
من حجج الذين قالوا : إن طلاق هذا الذي اشتد به الغضب لا يقع ، وهكذا سبه لا تقع به
ردة ، وهو قول قوي وظاهر ، وله حجج أخرى كثيرة بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله والعلامة ابن القيم ، واختارا هذا القول .
وهذا القول أرجح عندي وهو الذي أُفتي به ؛ لأن من اشتد غضبه ينغلق عليه قصده ويشبه
المجنون بتصرفاته وكلامه القبيح ، فهو أقرب إلى المجنون والمعتوه منه إلى العاقل
السليم ، وهذا قول أظهر وأقوى .
ولكن لا مانع من كونه يُؤدب بعض الأدب إذا فعل شيئاً من أسباب الردة أو من وجوه
الردة ، وذلك من باب الحيطة ، ومن باب الحذر من التساهل بهذا الأمر ، أو وقوعه منه
مرة أخرى إذا أدب بالضرب أو بالسجن أو نحو ذلك ، وهذا قد يكون فيه مصلحة كبيرة ،
لكن لا يحكم عليه بحكم المرتدين من أجل ما أصابه من شدة الغضب التي تشبه حال الجنون
، والله المستعان .
المرتبة الثالثة :
فهو
الغضب العادي ، الذي لا يزول معه العقل ، ولا يكون معه شدة تضيِّق عليه الخناق ،
وتفقده ضبط نفسه ، بل هو دون ذلك ، غضب عادي يتكدر ويغضب ، ولكنه سليم العقل سليم
التصرف .
فهذا عند أهل العلم تقع تصرفاته ، ويقع بيعه وشراؤه وطلاقه وغير ذلك ؛ لأن غضبه
خفيف لا يغير عليه قصده ولا قلبه والله أعلم” انتهى .
سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
“فتاوى
نور
على
الدرب”
(1/375 – 377) .
المصدر:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "فتاوى نور على الدرب" (1/375 – 377)
هل انتفعت بهذه الإجابة؟