0 / 0

حالات جواز الكذب

السؤال: 154955

هل يجوز الكذب لرفع الضرر ، فمثلا عند حصول أحد الطلاب على مجموعٍ عالٍ – إذا ذكر أمام بعض الناس – فإن هذا سيؤدي به إلى الضرر ، سواء بالحسد أو بالعين أو أي شيء من هذا القبيل ، فهل يمكن في مثل هذه الحالة أن يقال مجموعٌ آخر لرفع الضرر عن الطالب ، مع توضيح وبيان الحالات التي يجوز فيها الكذب . وجزاكم الله خيرا .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولاً :
الكذب من قبائح الذنوب ، وفواحش العيوب .
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا . وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) رواه البخاري (6094) ومسلم (2607) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذِبَةَ ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً) رواه أحمد في “المسند” (42/101) وصحح إسناده المحققون .

ثانياً :
جاءت الأدلة الشرعية الصحيحة تستثني من تحريم الكذب بعض الصور والحالات ، ومن هذه الأدلة :
حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا) رواه مسلم (2605) .
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ) رواه البخاري (3611) ومسلم (1066) .

ثالثاً :
استنبط العلماء من الأدلة السابقة ـ وغيرها ـ بعض الأحكام ، منها :
1- الكذب ليس محرماً لذاته ، بل لما يترتب عليه من المفاسد .
2- إذا كان الكذب سيؤدي إلى دفع مفسدة أعظم ، أو جلب مصلحة أكبر : صار جائزاً حينئذ .
وينبغي عدم التهاون في شأن الكذب مع دعوى أنه لدفع مفسدة ، بل لا بد من الموازنة الصحيحة ، بين المصالح والمفاسد .
3- من استطاع أن يستغني عن الكذب باستعمال التورية والمعاريض : فلا شك أنه أولى وأفضل ، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب) رواه البيهقي في ” السنن الكبرى ” (10/199) .
ومعنى المعاريض : أي الكلام الذي يظنه السامع شيئاً ويقصد المتكلم شيئاً آخر .
وهذه أقوال لبعض العلماء في تقرير هذه الأحكام .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
” اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقلَّ درجاته أن يعتقد المخبَر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً ، وقد يتعلق به ضرر غيره .
ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذوناً فيه ، وربما كان واجباً .
فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد :
1- فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً : فالكذب فيه حرام .
2- وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً .
3- وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب : فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة ، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة .
فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره .
كما لو أخذه ظالم ويسأله عن ماله : فله أن ينكره ، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها : فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت ، وما سرقت ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً ، وعرضه بـلسانه وإن كان كاذباً .
وكما لو سأله سر أخيه فله أن ينكره .
وكما لو أراد أن يصلح بين اثنين ، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به .
ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط .
فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما ، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ؛ لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة ، فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم ، فيرجع إليه .
ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب ، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذوراً ، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات ، وذلك حرام .
وقالت أسماء : سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة ، وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل علي شيء فيه ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه .
وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ، وذلك غامض جدا ، والحزم تركه ، إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان .
وقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب ، قال عمر رضي الله عنه : أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب . وروي ذلك عن ابن عباس وغيره .
وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب ، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً ، ولكن التعريض أهون” انتهى باختصار من “إحياء علوم الدين الغزالي” (3/136-139) .
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله :
“الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة , فيجوز تارة ويجب أخرى ، وله أمثلة :
أحدها : أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز .
وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته…- ثم ذكر صوراً أخرى يجوز فيها الكذب ثم قال :–
التحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذوناً فيه” انتهى من ” قواعد الأحكام ” (ص/112) .
وقال ابن حزم رحمه الله :
” ليس كل كذب معصية ، بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصي من تركه ، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً) ، وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها ، وكذلك الكذب في الحرب .
ثم نقل الإجماع على أن المسلم يجب عليه أن يكذب إذا سأله سلطان ظالم عن مكان مسلم ليقتله ظلماً ، وأنه إن صدقه وأخبره بموضعه كان فاسقاً عاصياً” انتهى من ” الفصل في الملل ” (4/5) .

رابعاً :
أما إخبار الطالب بخلاف درجته الحقيقية خوفاً من العين أو الحسد ، فليس ذلك ضرورة تبيح الكذب ، والله عز وجل يدافع عن المؤمن ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) الحج/38 .
فلا ينبغي للمسلم أن يملأ حياته بالخوف من الحاسدين أو العائنين .
وفي هذه الحالة … إن استطاع أن يستعمل المعاريض في الكلام ، فله رخصة في ذلك ، ولا حرج عليه .
وإن لم يستطع التعريض في الكلام فليصدق وليتوكل على الله تعالى وليعلم أن أحداً من الخلق لن يضره إلا إذا كان ذلك مكتوباً عليه .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android