0 / 0

الخلاف في حكم إطالة الجلوس للذكر والدعاء عقب صلاة الفريضة

السؤال: 164929

ورد في ” مصنف عبد الرزاق ” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف بعد الصلاة مباشرة.. فمتى كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار ، وبأي ترتيب ، هل كان يأتي بها دفعة واحدة .
وعلى ما أظن أن هذه الرواية توافق رأي الحنفية الذين يقولون بأن الجلوس المندوب بعد الصلاة لا يكون إلا بمقدار ما يقول الشخص : ” اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ” ثم الأفضل أن يذهب فيأتي بالأذكار والرواتب والسنن في بيته.. فهل هذا صحيح ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
اتفق العلماء على أنه يكره للإمام إذا سلم أن يبقى على جلسته مستقبلا القبلة ، بل يستدير ويقبل على الناس بوجهه .
يقول الكاساني رحمه الله :
” إن كانت صلاة لا تصلى بعدها سنة ، كالفجر والعصر : فإن شاء الإمام قام ، وإن شاء قعد في مكانه يشتغل بالدعاء ; لأنه لا تطوع بعد هاتين الصلاتين ، فلا بأس بالقعود ، إلا أنه يكره المكث على هيئته مستقبل القبلة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه إلا مقدار أن يقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ; ولأن مكثه يوهم الداخل أنه في الصلاة فيقتدي به فيفسد اقتداؤه ، فكان المكث تعريضا لفساد اقتداء غيره به فلا يمكث ، ولكنه يستقبل القوم بوجهه إن شاء ” انتهى من ” بدائع الصنائع ” (1/159)
ويقول النفراوي المالكي رحمه الله :
” من فضائل الصلاة أنه إذا سلم الإمام من الفريضة فلا يثبت في مكانه بعد سلامه ، سواء كانت الصلاة مما يتنفل بعدها أم لا ، ولينصرف .
وهل ينصرف جملة ؟ وهو ظاهر كلام المصنف ، أو يتحول ليس إلا . والمراد بانصرافه خروجه من المحراب ، والمراد بتحويله أي : يمينا أو شمالا .
ورجح القول بالتحويل ، قال الأجهوري : ويكفي تغيير هيئته .
قال الثعالبي : وهذا هو السنة ، واختلف في علته ، فقيل لأن الموضع لا يستحقه إلا من أجل الصلاة ، فإذا فرغ لا يستحقه بعدها .
وقيل : إن العلة التلبيس على الداخل .
ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه يثبت بعد سلامه قليلا ، لما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ” انتهى من ” الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ” (161)
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
” يستحب للإمام أن لا يطيل الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة ؛ لقول عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . رواه مسلم ” انتهى من ” كشاف القناع ” (1/364)
ثانيا :
ولكن اختلف الفقهاء في حكم إطالة الجلوس عقب الصلاة للذكر والدعاء ، وذلك على قولين :
القول الأول : يستحب إطالة الذكر والدعاء عقب الفراغ من الصلاة ، للمأموم والمنفرد مطلقا ، وللإمام بعد أن يتحول عن استقبال القبلة ، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
” أستحب أن يذكر الإمامُ اللهَ شيئا في مجلسه قدر ما يتقدم من انصرف من النساء قليلا كما قالت أم سلمة ، ثم يقوم ، وإن قام قبل ذلك أو جلس أطول من ذلك فلا شيء عليه…وأستحب للمصلي منفردا وللمأموم أن يطيل الذكر بعد الصلاة ، ويكثر الدعاء رجاء الإجابة بعد المكتوبة ” انتهى من ” الأم ” (1/151)
واستدلوا على ذلك بجميع الأحاديث الواردة في تخصيص أذكار معينة عقب الصلاة ، وهي أحاديث كثيرة ، جمعها أحد الباحثين – واسمه غالب الحامضي – في بحث بعنوان : ” الأحاديث الواردة المقيدة بأدبار الصلوات في كتب السنة جمعا ودراسة “.
يقول الإمام النووي رحمه الله :
” اتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم رحمهم الله على أنه يستحب ذكر الله تعالى بعد السلام ، ويستحب ذلك للإمام ، والمأموم ، والمنفرد ، والرجل ، والمرأة ، والمسافر ، وغيره ، ويستحب أن يدعو أيضا بعد السلام بالاتفاق ، وجاءت في هذه المواضع أحاديث كثيرة صحيحة في الذكر والدعاء ، قد جمعتها في كتاب الأذكار ” انتهى من ” المجموع ” (3/465)
ويقول الشيخ العدوي المالكي :
” يستحب الذكر بأثر الصلوات المفروضات من غير فصل بنافلة ، ولو طال الفصل عمدا
فالظاهر أنه لا يحصل به الطريقة المشروعة عقب الصلوات ، إلا أنه يثاب على الإتيان به ” انتهى باختصار من ” حاشية العدوي ” (1/284)
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
” يسن ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة المكتوبة كما ورد في الأخبار ، قال ابن نصر الله في الشرح : والظاهر أن مرادهما أن يقول ذلك وهو قاعد ، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه فالظاهر : أنه مصيب للسنة أيضا ، إذ لا تحجير في ذلك ” انتهى من ” كشاف القناع ” (1/365)
القول الثاني : إذا كانت صلاة الفريضة تتبعها سنة راتبة بعدية ، فيستحب تقصير الجلوس عقب الفراغ من الصلاة ، وتعجيل القيام منها والانصراف إلى صلاة النافلة في البيت ، ولا يجلس إلا مقدارا يسيرا ، وبعد ذلك يمكنه أن يأتي بما يشاء من الأذكار ، وهو قول فقهاء الحنفية ، قالوا يكره تأخير صلاة السنة الراتبة عن صلاة الفريضة ، ولا يفصل بينهما حتى بالأذكار الشرعية ، أما الفصل للانتقال إلى البيت فهو الأفضل .
واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها قالت :
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) رواه مسلم (592)
كما استدلوا بما رواه عبد الرزاق في ” المصنف ” (2/246) عن ابن جريج قال : حدثت عن أنس بن مالك قال : ( صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ساعة يسلم يقوم ، ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب ، فكأنما يقوم عن رضفة )
ورواه الطبراني في ” المعجم الكبير ” (1/252)، والبيهقي في ” السنن الكبرى ” (2/182) كلاهما من طريق عبد الله بن فروخ ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أنس بن مالك .
يقول ابن عابدين رحمه الله :
” أما ما ورد من الأحاديث في الأذكار عقيب الصلاة فلا دلالة فيه على الإتيان بها قبل السنة ، بل يحمل على الإتيان بها بعدها ; لأن السنة من لواحق الفريضة وتوابعها ومكملاتها ، فلم تكن أجنبية عنها ، فما يفعل بعدها يطلق عليه أنه عقيب الفريضة .
وقول عائشة : ( بمقدار ) لا يفيد أنه كان يقول ذلك بعينه ، بل كان يقعد بقدر ما يسعه ونحوه من القول تقريبا ، فلا ينافي ما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ” انتهى من ” رد المحتار ” (1/531)

والراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم خلافا للحنفية ، أنه يستحب إطالة الجلوس عقب الصلاة للإتيان بالأذكار المشروعة ، وذلك لعشرات الأحاديث الواردة في استحباب الأذكار (دبر الصلاة)، والأصل في دبر الشيء التعقيب والمباشرة ، وليس التراخي ، ومن أصرح الأحاديث التي تدل على استحباب الذكر عقب الصلاة المكتوبة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : ( كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ ) رواه البخاري (842)
وأما الجواب على أدلة الحنفية فظاهر أيضا ؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها : ( لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ ) لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهض ويخرج من المسجد بعد أن يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام . وإنما يعني أنه كان يتحول عن توجهه للقبلة ، ويستقبل الناس بوجهه ، فينصرف عن قعدته تجاه القبلة بعد أن يأتي بهذا الذكر ، ولا يلزم منه النهوض والخروج إلى البيت كما يقرره فقهاء الحنفية ، وقد سبق في أول جوابنا نقل كلام البهوتي الحنبلي رحمه الله في الاستدلال بهذا الحديث على ما ذكرناه .

أما الحديث الثاني حديث أنس بن مالك فظاهر الضعف ، فقد قال الراوي ابن جريج : حُدثت عن أنس بن مالك ، فأبهم شيخه الذي حدثه عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، ومعلوم أن الإسناد الذي يشتمل على راو مبهم ضعيف لا يثبت .
وأما الطريق الثاني : ففيه عبد الله بن فروخ ، قال فيه البخاري : تعرف منه وتنكر ، وقال ابن حبان : ربما خالف . وقال الخطيب : في حديثه نكرة . انظر : ” تهذيب التهذيب ” (5/356)
وانظر : (147965) ، (148168)
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android