0 / 0

حكم كتابة الروايات الخيالية

السؤال: 174829

ما حكم كتابة الروايات الخيالية التي تعالج بعض الأمراض الاجتماعية والحيف السياسي ، فالشخصيات والمشاهد ستكون مستوحاة من الخيال ، لكي لا أصطدم مع أحد أو جماعة ، ولكي أتجنب الجدل والمساءلة ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

اختلف أهل العلم المعاصرين في حكم كتابة القصص الخيالية ، إذا كان المراد منها تحقيق أغراض مباحة كالتربية على بعض القيم والأخلاق والآداب ، أو تعليم بعض العلوم التجريبية ، أو علاج بعض القضايا الاجتماعية والسياسية ، أو لغرض التسلية واللهو المباح أو نحو ذلك ،
ويمكن حصر الخلاف في ذلك على قولين اثنين :
القول الأول : التحريم والمنع ؛ لأن القصة الخيالية تحكي شيئا مبتكرا غير واقعي ، فهو من الكذب ، والكذب حرام .
جاء في “فتاوى اللجنة الدائمة” (12/187) :
” هل يجوز للشخص أن يكتب قصصا من نسج الخيال ، وكل ما فيها في الحقيقة كذب ، ولكن يقدمها كقصص للأطفال لقراءتها وأخذ العبر منها ؟
فكان الجواب :
” يحرم على المسلم أن يكتب هذه القصص الكاذبة ، وفي القصص القرآني والنبوي وغيرهما مما يحكي الواقع ويمثل الحقيقة ما فيه الكفاية في العبرة والموعظة الحسنة ” انتهى .

القول الثاني : الحل والجواز ، فلا مانع من كتابة القصص الخيالية ذات الأهداف النافعة ، وليست هي من باب الكذب ، لسببين اثنين :
1- أن كاتب القصة إنما يطلب من القارئ أن يتخيل معه الأحداث والشخصيات التي تؤلف تسلسل القصة والرواية ، فهناك إنشاء – أي : طلب – مقدَّر محذوف ، يُخرج باب الرواية والقصة الخيالية عن الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب ، ويجعلها في باب الإنشاء الطلبي الذي ينتظر الامتثال : بقراءة القصة ، أو عدم الامتثال : بتركها .
وبهذا تكون جميع أحداث القصة والرواية – مهما طالت – إنما هي توضيح للطلب المقدَّر وبيانٌ له ، وليست إخبارا محضا مجردا .
يتضح ذلك إذا افترضنا أن كل قصة يبتدئها كاتبها بالعبارة الآتية : ” تخيل معي أن…” ثم يبدأ بسرد الأحداث بعدها ، فستكون القصة حينئذ استكمالا للطلب الذي ابتدأت به ، والتخيل والافتراض لا يخضعان للتصديق أو التكذيب ، بل للامتثال أو عدمه .
2- الكذب إنما هو إيهام السامع بما يخالف الحقيقة والواقع – بغض النظر عن تعمده ذلك أو خطئه – ، أما في باب القصة فالقرائن القطعية التي تعارف عليها الناس اليوم تقضي بانتفاء الوهم عن كل مَن يقرأ القصة مِن الصغار والكبار ، فهم جميعا يدركون أن أحداثها مخترعة ، وشخصياتها مبتكرة ، وأن الغرض منها الخيال الذي يثمر تربية أو سلوكا أو تعليما أو تسلية أو غير ذلك .
يقول العلامة ابن الوزير الصنعاني رحمه الله :
” الكذب هو : ما قصد المتكلّم به إيهام السّامع ما ليس بصدق , والمتجوّز لم يقصد ذلك , وهذا هو الفرق بين الاستعارة والكذب كما ذكره أهل البيان ” انتهى من ” الروض الباسم ” (2/440)

وهذا مشهور لدى المحدثين عند كلامهم على ” التدليس “، وأن سبب ذمه إيهام غير الواقع فيكون كالكذب ، أما إذا انتفى الإيهام ينتفي الكذب والذم ، على حد قول الإمام المعلمي رحمه الله : ” فزال الإيهام ، فزال الكذب ” انظر : ” التنكيل ” (1/312)
وأما الفقهاء فيقررون شرط الإيهام في تعريف الكذب عند حديثهم عن القذف وصور اجتماعه بالكذب أو افتراقه عنه ، فيقولون : ” الكاذب يوهم الكذب صدقا ” انتهى من ” أسنى المطالب ” لزكريا الأنصاري (4/346)
ويمكن أن يستأنس لذلك أيضا بما كتبه بديع الزمان أحمد بن الحسين الهمذاني (ت 398هـ) ، من “المقامات” الأدبية ، وهي حكايات مصطنعة مبتكرة متنوعة في أغراضها ومقاصدها ، يحكيها الهمذاني عن عيسى بن هشام ، وهي شخصية وهمية ، فقد قال الحريري في “مقدمة مقاماته” (ص/2) : ” وبعد فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه ، وخبت مصابيحه ، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان ، وعلامة همذان ، رحمه الله تعالى ، وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها ، وإلى عيسى بن هشام روايتها ، وكلاهما مجهول لا يعرف ، ونكرة لا تتعرف ” انتهى .
أما مقامات الحريري فيبدو أنها أحداث حقيقية : انظر “سير أعلام النبلاء” (19/462).
ثم لم نسمع عن أحد من أهل العلم إنكارها ولا بيان كذبها والتحذير منها ، بل ما زالت هذه المقامات تقرأ في مجالس الأدب ، ويستأنس بما فيها من بديع اللفظ والمعنى ، ويَنسج على منوالها الأدباء والكتاب في القديم والحديث .

وهذا القول هو الراجح ، لعدم صحة دليل التحريم ، وبه أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، حيث سئل السؤال الآتي :
” أنا شاب أهوى الكتابة ، وأقدم على كتابة الروايات والمسرحيات والقصص عن مواضيع اجتماعية طيبة من نسج خيالي وتصوري ، وإني أسأل عن حكم كتابة هذه الروايات والقصص وتقاضي المال عنها كجوائز تقديرية في المسابقات ، أو ممارستها كمهنة لطلب الرزق ؟
فأجاب :
هذه الأمور التي تتصورها في ذهنك ثم تكتب عنها لا يخلو :
إما أن تكون لمعالجة داء وقع فيه الناس حتى ينقذهم الله منه بمثل هذه التصويرات التي تصورها.
وإما أن يكون تصويرا لأمور غير جائزة في الشرع .
فإن كان تصويرا لأمور غير جائزة في الشرع فإن هذا محرم ولا يجوز بأي حال من الأحوال ، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ).

أما إذا كانت لمعالجة داء وقع فيه الناس ، لعل الله ينقذهم منه بها ، فإن هذا لا بأس به ، بشرط أن تعرضه عرضا يفيد أنه غير واقعي ، مثل أن تجعله أمثالا تضربها حتى يأخذ الناس من هذه الأمثال عبراً ، أما أن تحكيها على أنها أمر واقع وقصة واقعة وهي إنما هي خيال ، فإن هذا لا يجوز ، لما فيه من الكذب ، والكذب محرم ، ولكن من الممكن أن تحكيه على أنه ضرب مثل يتضح به المآل والعاقبة لمن حصل له مثل هذا الداء .
واتخاذ ذلك سببا ووسيلة لطلب الرزق ليس فيه بأس إذا كان في معالجة أمور دنيوية ؛ لأن الأمور الدنيوية لا بأس أن تتطلب بعلم دنيوي ، أما إذا كان في أمور دينية فإن الأمور الدينية لا يجوز أن تجعل سببا للكسب وطلب المال ؛ لأن الأمور الدينية يجب أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى ، لقوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
والحاصل أن هذه التصورات التي تصورها بصورة القصص : إن كان فيها إعانة على إثم وعدوان فإنها محرمة بكل حال ، وإن كان فيها إعانة على الخير ومصلحة الناس فإنها جائزة ، بشرط أن تصورها بصورة التمثيل لا صورة الأمر الواقع ، لأنها لم تقع ، وأنت إذا صورتها بصورة الأمر الواقع وهي لم تقع كان ذلك كذبا .
أما اتخاذها وسيلة للكسب المادي فإن كان ما تريده إصلاحا دنيويا ومنفعة دنيوية فلا حرج ؛ لأن الدنيا لا بأس أن تكتسب للدنيا ، وأما إذا كان ما تريده إصلاحا دينيا فإن الأمور الدينية لا يجوز للإنسان أن يجعلها وسيلة للدنيا ؛ لأن الدين أعظم وأشرف من أن يكون وسيلة لما هو دونه ” انتهى من ” نور على الدرب ” (فتاوى الموظفين/سؤال رقم 24)
ويقول أيضا رحمه الله :
” الإنسان إذا ضرب مثلاً بقصة ، مثل أن يقول : أضرب لكم مثلاً برجل قال كذا أو فعل كذا وحصلت ونتيجته كذا وكذا ، فهذه لا بأس بها ، حتى إن بعض أهل العلم قال في قول الله تعالى : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ) الكهف/32، قال : هذه ليست حقيقة واقعة .
وفي القرآن : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الزمر/29.
فإذا ذكر الإنسان قصة لم ينسبها إلى شخص معين ، لكن كأن شيئاً وقع ، وكانت العاقبة كذا وكذا ، فهذا لا بأس به .
أما إذا نسبه إلى شخص وهي كذب فهذا حرام ، تكون كذبة ” انتهى باختصار من ” لقاءات الباب المفتوح ” (لقاء رقم/77، سؤال رقم/10).

وقد سبق في موقعنا اختيار هذا القول في جواب السؤال رقم : (4505)
وانظر أيضا : (10836) ، (22496)

والحاصل أنه إذا التزم الروائي أو كاتب القصة بالضوابط الشرعية ، بأن كانت روايته هادفة لتحقيق غرض مشروع ، ولم تشتمل على الإسفاف أو الإثارة المحرمة أو الاستهزاء أو غير ذلك من المحاذير الشرعية ، فلا حرج عليه في كتابته واشتغاله بالرواية والقصة ، وليكن سببا في نشر الخير من خلال هذا الفن الأدبي المؤثر .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android