هل يعدُّ الخلاف في الصور الفوتوغرافية لذوات الأرواح ، والصلاة في الجماعة ، وإسبال الإزار لغير خيلاء من الخلاف السائغ ؟
ما ضابط “الخلاف السائغ”؟ وهل الخلاف في التصوير ، وصلاة الجماعة ، والإسبال منه ؟
السؤال: 177830
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً
فإنه قبل الحكم على تلك المسائل أنها من مسائل الخلاف السائغ أم لا ، فإنه يجدر بنا أن نعرف ضوابط ” الخلاف السائغ ” فنقول : المسائل التي وقع فيها خلاف بين العلماء مما يصح أن تكون من مسائل الخلاف السائغ هي ما جمعت هذه الشروط :
1. أن لا يكون في المسألة دليل من الكتاب أو السنَّة أو إجماع متحقق .
وما لم تكن المسألة فيها نص من الوحي أو إجماع منعقد : فستكون مبنية على النظر والاجتهاد ، والعلماء ليسوا سواسية في هذا الباب ، وقد وهب الله تعالى لبعضهم ما لم يهبه لغيره من قوة النظر والقدرة على الاستنباط .
قال النووي – رحمه الله – : ” وكذلك قالوا ليس للمفتى ولا للقاضي أن يَعترض على مَن خالفه اذا لم يخالف نصّاً أو إجماعاً أو قياساً جليّاً ” انتهى من ” شرح مسلم ” ( 2 / 24 ) .
ولا فرق في هذا بين مسائل العقيدة ومسائل الفقه في هذا الباب ، وأكثر ما يقع فيه الخلاف والعفو عنه هو دقيق مسائل العلم ؛ لأنه يندر إجماع العلماء على هذه الدقائق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمَّة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمَّة ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” ( 20 / 165 ) .
2. أن تكون المسألة فيها نص صحيح لكنه غير صريح الدلالة على المراد .
ووقوع الخلاف هنا في الفهم الذي جعله الله تعالى متفاوتاً بين الخلق .
3. أن تكون المسألة فيها نص صريح في الدلالة لكنه متنازع في صحته ، أو يكون له معارض قوي من نصوص أخرى .
مع التنبيه أن الخلاف السائغ المقبول هو ما كان صادراً من أهل العلم والدين ، وأما العامة ، وأشباههم ، فلا قيمة لخلافهم ، ولا عبرة بفتواهم أصلا .
ثانياً:
إذا تحقق للمسلم أن المسألة التي تبناها والتزم بحكمها هي من مسائل الخلاف السائغ : فينبغي له أن يعلم أموراً مهمة :
1. أنه ليس له أن يُنكر أو يعيب على مخالف .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – : ” قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد – أي : ابن حنبل – : هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة ؟ قال : لا نفعله ، ولا نعيب فاعله .
قال : وبه قال أبو حنيفة .
وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه ، بل رأى أن من فعله متأولاً ، أو مقلداً لمن تأوله ، لا يُنكر عليه ، ولا يُعاب قوله ؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ ” انتهى من ” فتح الباري ” لابن رجب ( 4 / 127 ) .
2. ومن باب أولى أن لا يحكم على مخالفه بالجهل أو الضلال أو البدعة .
3. ومسائل الخلاف السائغ لا يجوز معها التناحر والافتراق والهجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” مسائل الاجتهاد مَن عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” ( 20 / 207 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله – : ” وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداةً ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل ؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها ” انتهى من ” الصواعق المرسلة ” ( 2 / 517 ) .
4. في هذه المسائل يدور الأمر بين أجر واحد للمخطئ وأجرين للمصيب .
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) . رواه البخاري ( 6919 ) ومسلم ( 1716 ) .
5. وكون المسألة من مسائل الخلاف السائغ لا يعني أنه يُمنع من التباحث العلمي فيها ، بل ما زال ذلك دأب أهل العلم ؛ أن يتباحثوا في مثل هذه المسائل ، ويصنفوا فيها ، وينظروا في قول المخالف ، أو يردوه بما عندهم من دليل ؛ ومقصودهم من ذلك إصابة الأجرين ، وهم يعلمون أن الحق في أحد الأقوال وكل واحد يسعى إلى إصابة الحق في المسألة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” ( 30 / 80 ) .
ثالثاً:
بعد الذي سبق نقول :
1. إن مسألة ” التصوير الفوتغرافي ” هي في أصلها من ” الخلاف السائغ ” ؛ لأنها أمر حادث ليس موجوداً من قبل فبالقطع ليس فيها نص من كتاب أو سنَّة أو إجماع ، ومحل الخلاف هل تشملها نصوص السنَّة أو لا تشملها وهذا محل اجتهاد ، ولا شك ، ولذا فلا عجب من وقوع الخلاف في المسألة بين العلماء المعاصرين .
وانظر ما كتبناه في حكم ” التصوير الفوتغرافي ” في جوابي السؤالين (22660 ) و (8954).
2. وأما مسألة ” صلاة الجماعة ” : فإن الأدلة على وجوبها ظاهرة بيِّنة في الكتاب والسنَّة ، فقد أمر الله تعالى بالصلاة جماعة أثناء الجهاد ، وهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحرِّق على من يصلي بيته ويترك جماعة المسجد ، كما أنه ثمة أقوال للصحابة رضي الله عنهم تؤكِّد هذا الوجوب الذي ثبت بالسنَّة المشرَّفة ، كقول ابن مسعود رضي الله تعالى في وجوب الصلاة جماعة في المسجد وأن من يتخلف عنها هو منافق معلوم النفاق ، وهو قول التابعين المحققين .
قال ابن المنذر – رحمه الله – : ” وفي اهتمامه بأن يحرِّق على قوم تخلَّفوا عن الصلاة بيوتَهم أبين البيان على وجوب فرض الجماعة ؛ إذ غير جائز أن يحرق الرسول الله صلى الله عليه وسلم من تخلف عن ندب وعما ليس بفرض ” انتهى من ” الأوسط ” ( 4 / 134 ) .
ومع هذا فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال .
1. فمنهم من قال إنها فرض عين ، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث .
2. ومنهم من قال إنها فرض كفاية ، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي ، وهو قول بعض أصحاب مالك ، وهو – أيضاً – قول في مذهب أحمد .
3. وطائفة ثالثة ذهبت إلى كونها سنَّة مؤكدة ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب مالك وكثير من أصحاب الشافعي ، ويذكر رواية عن أحمد .
4. وذهب بعض العلماء إلى أن صلاة الجماعة فرض عين وشرط في صحة الصلاة ، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد وطائفة من السلف ، واختاره ابن حزم ، ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أحد قوليه .
وعليه : فمما ذكرناه من الاختلاف بين العلماء في حكم صلاة الجماعة يتبيَّن للباحث أن الخلاف في وجوبها هو من الخلاف السائغ ، ونحن – في موقعنا – نرجح القول بوجوبها ، وقد ذكرنا الأدلة من القرآن والسنَّة على الوجوب وعززناها بأقوال أهل العلم في أجوبة الأسئلة ( 120 ) و ( 8918 ) و (40113 ) .
3. وأما مسألة الإسبال : فقد قام الإجماع على حرمة من أسبل إزاره خيلاء ، وأما من أسبل غير قاصد الخيلاء ، فالخلاف فيه – أيضا – معتبر بين العلماء بسبب اختلافهم هل يُحمل المطلق من النصوص الثابتة بتحريم الإسبال على المقيَّد منها بالخيلاء ؟ وقد ذهب أكثر العلماء إلى هذا فحملوا المطلق من الأحاديث في تحريم الإسبال إلى المقيد منها بالخيلاء ولم يروا بأساً بالإسبال إذا خلا صاحبه من الخيلاء ، وخالفهم بعض العلماء فلم يقيدوا المنع من الإسبال بالخيلاء بل جعلوا لكل واحد من الأمرين حكمه وإثمه وعقوبته ، وهي من مسائل الفهم ، والخلاف فيها سائغ.
ولا يمنع – كما سبق أن ذكرنا – كون المسألة من مسائل الخلاف السائغ أن لا يبحثها المسلم قاصداً تحري الأجرين ، ونحن في موقعنا تبنينا الحكم بتحريم الإسبال مطلقاً ولو لم يقصد المسبل الخيلاء .
وقد ذكرنا المسألة بأدلتها وبينَّا وجه قولنا بالتحريم المطلق للإسبال في أجوبة الأسئلة ( 72858 ) و ( 102260 ) و (111852 ) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة