ما الحكمة من ذكر الله تعالى في القرآن أن السموات والأرض خُلقن في ستة أيام ، ثم نأتي إلى عدد الصلوات في اليوم والليلة فلا نجد ذكراً ولا رقماً يحددها في القرآن ، أيهما أكثر أهمية للعباد أن يعرفوه ، عدد أيام خلق السموات والأرض أم عدد الصلوات ؟
يتساءل عن الحكمة من عدم ذكر أعداد ركعات الفرائض في القرآن الكريم
السؤال: 185003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ليس كل شيء مذكور في القرآن أهم من كل شيء ثبت في السنة النبوية ، لم يقل بذلك أحد من العلماء ، ولم يرد دليل في الكتاب أو في السنة يدل عليه ، بل قد واقع خلاف ذلك كثيرا ، فقد ورد في القرآن الكريم ذكر كثير من الأمور التفصيلية لأحوال الخلق وقصص الماضين ، كذكر الكلب الذي رافق أصحاب الكهف ، وذكر كلام النملة في قصة نبي الله سليمان ، وبعض الأحكام الفرعية في سورة ” النور ” وغيرها ، كآداب الأطفال في الاستئذان قبل الدخول على والديهم ، وشيء من آداب الطعام والشراب ، ونحوها من الأمور التي لا نشك في فضلها وأهميتها ، ولكن ما ثبت في السنة النبوية من تفصيل صفة الصلاة ومقادير الزكاة وشروطها وصفة الحج ونحوها أعظم شأنا ، وأعلى مقصدا في أحكام الشريعة الإسلامية .
ولهذا فإن ذكر عدد أيام خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم لا يدل بوجه من الوجوه على أهميته الزائدة على أعداد الصلوات المفروضات في اليوم والليلة ، والقرآن الكريم لم يخصص لبيان تفاصيل أركان الدين الأساسية والسنة النبوية للأمور الثانوية ، بل كل منهما وحي فيه أعلى شعب الإيمان وأدناها .
ثانيا :
هذا يدلك على أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في الدلالات التشريعية والأولويات الدينية بين ما ورد في القرآن الكريم ، وما ثبت في السنة النبوية ، خاصة حين يكون ثبوته في السنة النبوية متواترا أو مستفيضا بحيث لم يقع في ثبوته خلاف ، كما هو الحال في ذكر أعداد ركعات الصلاة وبيان أركانها وصفتها الإجمالية .
لذلك لا بد أن يستقر في عقل وقلب كل مسلم أن السنة – وهي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير – هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم ؛ فقد قال تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ ) النجم/3-4، وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبعَان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ ، فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ) .
رواه الترمذي (2664) وقال : حسن غريب من هذا الوجه ، وحسنه الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (2870) .
لذلك يقول حسان بن عطية رحمه الله : ” كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ” انتهى من ” الكفاية ” للخطيب (ص/12) .
وقد بوب الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه العظيم ” الكفاية في علم الرواية ” (ص/8) بقوله : ” باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى ، وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في وجوب العمل ، ولزوم التكليف ” انتهى.
وكلها أدلة تبين للسائل أن المسلم لا يفرق بين الثابت في الكتاب العظيم ، وبين الثابت في السنة النبوية ، بشرط أن يكون ثبوته في السنة ظاهرا لا مطعن فيه ، وقد سبق بيان ذلك في موقعنا في الجواب رقم (77243) .
ثالثا :
السؤال عن الحكمة كثيرا ما يغفل معه السائل أن ما نراه من أحداث يومية في هذه الدنيا ، وما نعيشه من تفاصيل الخلق التي لا تعد ولا تحصى ، وما ورد في الكتاب والسنة من مئات آلاف النصوص التي تتحدث عن الشريعة والخليقة وعن الله جل جلاله ، كلها يمكن أن تلحقها بسؤال عن الحكمة منها ، بل يمكن أن تسأل عن كل مسكوت عنه ما الحكمة في السكوت عنه ، ولك أن تتصور بعد ذلك القدر الذي يمكن أن يستوعبه العقل البشري من هذا السؤال ، بل لك أن تتصور مقدار الخلل الذي يلحق العقل من هذا الإلحاح في سؤال الحكمة إلى درجة التكلف .
وذلك لا يعني نفي الحكمة عن جميع ما سبق ، ولكنه يعني أن القدر الذي سينكشف للإنسان منها قدر ضئيل في جانب تلك المنظومة الهائلة من الحكم المتسلسلة ، وهي ضآلة متجذرة تابعة لصغر عقل الإنسان في جانب هذا الكون الفسيح ، وفي جانب كثرة الأحداث والأسباب والمسببات والعلاقات بينها ، وفي جانب عظمة الخالق جل وعلا ، فلا يجدر حينئذ بالإنسان سوى أن يدرك حدود عقله ، فلا يهدر طاقته إلا فيما ينفعه في دنياه وآخرته .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
” رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه ! فربما لم يتبين له بعضها – مثل النقض بعد البناء – فيقف متحيرًا ! وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة ، فوسوس إليه : أين الحكمة من هذا ؟!
فقلت له : احذر أن تخدع يا مسكين ! فإنه قد ثبت عندك بالدليل القاطع – لما رأيت من إتقان الصنائع – مبلغ حكمة الصانع ؛ فإن خفي عليك بعض الحكم ، فلضعف إدراكك .
ثم ما زالت للملوك أسرار ، فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟! يكفيك الجُمَل ! وإياك إياك أن تتعرض لما يخفي عليك ، فإنك بعض موضوعاته ، وذرة من مصنوعاته ، فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟!
ثم قد ثبتت عندك حكمته في حكمه وملكه ، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم ، فإنه سيورثك الدهش ! وغمض عما يخفى عليك ، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس ” انتهى من ” صيد الخاطر ” (ص/156) .
ويقول ابن القيم رحمه الله :
” تبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة ، كما أن له فيه قدرة قاهرة ، وهدايات ، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر ، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه ” انتهى من ” شفاء العليل ” (ص/239) .
رابعا
لعل من أعظم الحكم عن سكوت القرآن الكريم عن ذكر أعداد ركعات الصلوات المفروضة في اليوم والليلة ، أن يثبت لعلماء الشريعة وأتباعها أهمية السنة النبوية ، وأنها القسم الثاني من الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لتكون علامة قاطعة مفحمة لجميع من يدعوه الشيطان للتشكيك في السنة النبوية ، أو الطعن في حجيتها .
روى الخطيب البغدادي في ” الكفاية ” (ص/15) عن الحسن : ” أن عمران بن حصين , كان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم : لا تحدثونا إلا بالقرآن , قال : فقال له : ادنه , فدنا , فقال : أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن ، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا ، وصلاة العصر أربعا ، والمغرب ثلاثا , تقرأ في اثنتين , أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن ، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا ، والطواف بالصفا والمروة , ثم قال : أي قوم ؛ خذوا عنا ؛ فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن ” انتهى .
وفي ” الموسوعة الفقهية الكويتية ” ( 1 / 49 – 51 ) كلام نفيس ننقله للفائدة :
تنقسم مسائل الفقه من حيث إدراك حكمة التشريع فيه أو عدم إدراكها إلى قسمين :
أولهما : أحكام معقولة المعنى ، وقد تسمى أحكاما معللة ، وهي تلك الأحكام التي تدرك حكمة تشريعها ، إما للتنصيص على هذه الحكمة ، أو يسر استنباطها .
وهذه المسائل هي الأكثر فيما شرع الله سبحانه وتعالى ، حيث : لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم وذلك كتشريع الصلاة والزكاة والصيام والحج في الجملة ، وكتشريع إيجاب المهر في النكاح ، والعدة في الطلاق والوفاة ، ووجوب النفقة للزوجة والأولاد والأقارب ، وكتشريع الطلاق عندما تتعقد الحياة الزوجية . . . إلى آلاف المسائل الفقهية .
وثانيهما : أحكام تعبدية ، وهي تلك الأحكام التي لا تدرك فيها المناسبة بين الفعل والحكم المرتب عليه ، وذلك كعدد الصلوات وعدد الركعات وكأكثر أعمال الحج .
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن هذه الأحكام قليلة بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى . وتشريع هذه الأحكام التعبدية إنما يراد به اختبار العبد هل هو مؤمن حقا ؟
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن الشريعة في أصولها وفروعها لم تأت بما ترفضه العقول ، ولكنها قد تأتي بما لا تدركه العقول ، وشتان بين الأمرين ، فالإنسان إذا اقتنع – عقليا – بأن الله موجود ، وأنه حكيم ، وأنه المستحق وحده للربوبية دون غيره ، واقتنع – عقليا – بما شاهد من المعجزات والأدلة – بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه فإنه بذلك قد أقر لله سبحانه وتعالى بالحاكمية والربوبية ، وأقر على نفسه بالعبودية ، فإذا ما أمر بأمر ، أو نهي عن شيء ، فقال : لا أمتثل حتى أعرف الحكمة فيما أمرت به أو نهيت عنه ، يكون قد كذب نفسه في دعوى أنه مؤمن بالله ورسوله ، فإن للعقول حدا ينتهي إليه إدراكها ، كما أن للحواس حدا تقف عنده لا تتجاوزه .
وما مثل المتمرد على أحكام الله تعالى التعبدية إلا كمثل مريض ذهب إلى طبيب موثوق بعلمه وأمانته ، فوصف له أنواعا من الأدوية ، بعضها قبل الأكل وبعضها أثناءه وبعضها بعده مختلفة المقادير ، فقال للطبيب : لا أتعاطى دواءك حتى تبين لي الحكمة في كون هذا قبل الطعام وهذا بعده ، وهذا أثناءه ، ولماذا تفاوتت الجرعات قلة وكثرة ؟ فهل هذا المريض واثق – حقا – بطبيبه ؟ فكذلك من يدعي الإيمان بالله ورسوله ، ثم يتمرد على الأحكام التي لا يدرك حكمتها ، إذ المؤمن الحق إذا أمر بأمر أو نهي عنه يقول سمعت وأطعت ، ولا سيما بعد أن بينا أنه ليس هناك أحكام ترفضها العقول السليمة ، فعدم العلم بالشيء ليس دليلا على نفيه ، فكم من أحكام خفيت علينا حكمتها فيما مضى ثم انكشف لنا ما فيها من حكمة بالغة ، فقد كان خافيا على كثير من الناس حكمة تحريم لحم الخنزير ، ثم تبين لنا ما يحمله هذا الحيوان الخبيث من أمراض وصفات خبيثة أراد الله سبحانه وتعالى أن يحمي منها المجتمع الإسلامي ، ومثل ذلك يقال في الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب . . إلى غير ذلك من الأحكام التي تكشف الأيام عن سر تشريعها وإن كانت خافية علينا الآن .
نرجو أن يكون الجواب قد وقع على محل التساؤل بدقة .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة