الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
روى الإمام أحمد (12540) وابن حبان (5870) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ” كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَرْقُصُونَ ، وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَقُولُونَ؟ ) قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ .
قال محققو المسند : ” إسناده صحيح على شرط مسلم ” .
وفي رواية ابن حبان لهذا الحديث : أَنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعني يرقصون – وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا يَقُولُونَ ؟ ) قَالُوا : مُحَمَّدٌ عبد صالح ” .
قال ابن مفلح رحمه الله ، في الآداب الشرعية (1/381) : ” إسناده جيد ” .
والواقع أن الحديث لا يصح دليلا على ما أراده هذا القائل ، من مشروعية الرقص والتمايل عند الذكر ، وذلك لأمور :
الأول :
أن مراد الحبشة من ذلك ، لم يكن في واقع الأمر القيام في حال الذكر، والرقص لأجل ذلك ؛ بل كانوا يلعبون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعض الروايات تفيد بأن لعبهم ذلك كان فرحا بمقدمه الشريف إلى المدينة النبوية : فمن ذلك ما رواه البخاري (454) ومسلم (892) عن عَائِشَةَ قَالَتْ : ( لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ ) .
وروى مسلم (892) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ” جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ ، حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ “.
وروى البخاري (2901) ومسلم (893) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” بَيْنَا الحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ ، دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِهَا، فَقَالَ: (دَعْهُمْ يَا عُمَرُ) ” .
وروى أحمد (12649) وأبي داود (4923): عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ” لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ لِقُدُومِهِ بِحِرَابِهِمْ فَرَحًا بِذَلِكَ ” .
وإسناده صحيح على شرط الشيخين .
وروى أحمد (25962) عن عُرْوَةُ، أنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: ” قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ – يعني يوم لعب الحبشة في المسجد، ونظرت عائشة إليهم – ( لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ ) وحسنه الألباني في “الصحيحة” (1829) .
فمن تأمل هذه الأحاديث علم أن المقام كان مقام لعب وفرح ومرح ، ولم يكن مقام ذكر ، وتواجد ، وتمايل في حلق الذكر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ) ، وهذا إنما يقال في مقام الترخص واللهو واللعب ، وليس في مقام الذكر والخشوع .
الثاني :
ليس المراد بالرقص المذكور في هذه الرواية ، ما يفهمه المتصوفة من التراقص والتمايل عند أذكارهم وأورادهم ؛ بل المراد به لعبهم ولهوهم بحرابهم ، كما دلت على ذلك الروايات الأخرى المذكورة فيما سبق .
قال النووي رحمه الله :
” وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّوَثُّبِ بِسِلَاحِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَيْئَةِ الرَّاقِصِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهَا لَعِبهِمْ بِحِرَابِهِمْ فَيُتَأَوَّلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى مُوَافَقَةِ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ” .
انتهى من “شرح مسلم” للنووي (6/186) .
الثالث :
ليس في شيء من صنيع أئمة الحديث ورواته ، وتصرفهم في الحديث وتبويبهم عليه : ما يشير إلى مسألة الرقص عند الذكر ، من قريب أو من بعيد ، بل كلهم يبوب عليه بما سبق ذكره من : اللعب في العيد ، والفسحة في الدين ، ونحو ذلك :
فقد بوب البخاري لحديث عائشة : ” بَابُ أَصْحَابِ الحِرَابِ فِي المَسْجِدِ ” .
وبوب لحديث أبي هريرة : ” بَابُ اللَّهْوِ بِالحِرَابِ وَنَحْوِهَا ” .
وبوب أبو داود لحديث أنس : ” بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغِنَاءِ ” .
وبوب النسائي لحديث عائشة: ” اللَّعِبُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ وَنَظَرُ النِّسَاءِ إِلَى ذَلِكَ”.
وبوب له النووي في شرح مسلم : ” بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اللَّعِبِ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ ” .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (133594) .
ثانيا :
نص غير واحد من أهل العلم على أن الحركة والتمايل أثناء الذكر من البدع المحدثة ، وأن الرقص أثناء الذكر من بدع الصوفية المضلة .
سئل علماء اللجنة :
هل الذكر الذي يعمله بعض الناس في مصر وأريافها من الدين؟ مثلا يقفون ويتمايلون يمينا ويسارا ويذكرون لفظ الجلالة ؟
فأجابوا : ” هذا العمل لا نعلم له أصلا في دين الله ، بل هو بدعة ، ومخالفة لشرع الله يجب إنكارها على من يعملها ولا سيما مع القدرة على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه ” .
انتهى من “فتاوى اللجنة الدائمة” (2/ 521) .
وينظر جواب السؤال رقم : (143924) .
والله تعالى أعلم .