تنزيل
0 / 0

هل تستحب خطبة الحاجة في بداية التصنيف ؟

السؤال: 198038

لا شك أن كثيرا من المؤلفين المعاصرين يكتبون في أول كتابهم بالخطبة النبوية التي هي مشهورة بخطبة الحاجة ( إن الحمد لله نحمده …) ، ويقولون كتابة هذه الخطبة سنة ، ولكني نظرت إلى كتب المؤلفين القدامى فلم أر واحدا منهم – خصوصا البخاري ومسلم والنووي – يكتبون في مقدمة كتبهم هذه الخطبة .
فلذا أرجو منكم جوابا شافيا على هذا السؤال .
وهو إذا كانت كتابة هذه الخطبة سنة فلماذا لم يكتبها البخاري ومسلم وغيرهم من العلماء المعتبرين ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
اختلف العلماء في ” خطبة الحاجة ” ومشروعيتها في بداية التأليف والتصنيف أو
المراسلات بين الناس ، وذلك على قولين :
القول الأول : ” خطبة الحاجة ” ليست سنة في ابتداء الكتابة والتأليف .
يقول ابن علان رحمه الله :
” الخطبة المعروفة من خطبة الجمعة والعيد ونحوهما ، وخطبة الحاجة ونحوها ؛ لأنها
المعهودة في عهد الشارع ، دون خطب نحو الكتب ، وقد ترك الإتيان بها – أي بالشهادة –
الترمذي في جامعه وشمائله ، وكذا أبوداود ، وهما راويا الحديث ، فدل صنيعهما على
تخصيصه بما ذكر ” انتهى من ” الفتوحات الربانية ” (6/63) دار إحياء التراث العربي.
ويقول الملا علي القاري رحمه الله :
” لما ترك أكثر المصنفين العمل بظاهر هذا الحديث ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد
الجذماء ) دل على أن ظاهره غير مراد ، فيؤول بأحد التأويلات ، والأظهر عندي أن تحمل
الخطبة في هذا الحديث على الخطب المتعارفة في زمانه صلى الله عليه وسلم أيام الجمع
والأعياد وغيرها ، فإن التصنيف حدث بعد ذلك ” .
انتهى من ” جمع الوسائل شرح الشمائل ” (1/5) طبعة مصطفى البابي الحلبي.
واستدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : كُتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء ليس فيها
البداءة بهذه الخطبة ، كما أنه عليه الصلاة والسلام في كثير من كتبه التي أمر
بكتابتها للمسلمين في بيان الصدقات والديات وغيرها لم يأمر ببداءتها بخطبة الحاجة ،
وليس فيها الحمد والتشهد ، وإنما فقط البسملة .
يقول ابن حجر رحمه الله :
” جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم ، فلم يقع في واحد منها
البداءة بالحمد ، بل بالبسملة ” انتهى من ” فتح الباري ” (7/220) .
الدليل الثاني : أن أحدا من أهل العلم المصنفين في الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد بن
حنبل أو الفقه كالشافعي ، أو التفسير أو علوم القرآن أو النحو ، كلهم لم نجد أحدا
منهم يبتدئ كتابه بخطبة الحاجة ، كما لم نقف على من يذكر خطبة الحاجة في كتب الآداب
، أو يقرر استحبابها في التأليف والمراسلات ، وإنما يذكرونها في كتاب ” النكاح ”
فحسب ، فإذا كان ذلك سنة فكيف تغيب عن علماء الإسلام الذين هم مادته وقوامه !!
يقول ابن حجر رحمه الله :
” تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري ، وشيوخ شيوخه ، وأهل عصره ، كمالك في الموطأ ،
وعبد الرزاق في المصنف ، وأحمد في المسند ، وأبي داود في السنن ، إلى ما لا يحصى
ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ، ولم يزد على التسمية ، وهم الأكثر ، والقليل
منهم من افتتح كتابه بخطبة …. أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب
، كما تقدم ، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم … وقد
استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة ، وكذا معظم كتب الرسائل
” انتهى من ” فتح الباري ” (1/9) .
القول الثاني : ” خطبة الحاجة ” سنة مستحبة في أوائل المصنفات والمراسلات ، وهو قول
الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله (ت229هـ) الصريح في مقدمة كتابه ” مشكل الآثار
“، كما هو ظاهر ما يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد افتتح الكثير
من رسائله بإحدى صيغ خطبة الحاجة الثابتة ، وهي من الكثرة بحيث يشق حصرها ، تجدها
في ” مجموع الفتاوى “، و ” جامع الرسائل “، وكذلك كتبه ” درء التعارض “، و” بيان
تلبيس الجهمية “، و” الأخنائية “، وكذلك العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله ، افتتح
كتبه ” الطرق الحكمية “، و” الصلاة وأحكام تاركها ” بهذه الخطبة .
يقول الطحاوي رحمه الله :
” ابتدأته – يعني كتابه – بما أمر صلى الله عليه وسلم بابتداء الحاجة به ، مما قد
روي عنه بأسانيد أنا ذاكرها بعد ذلك إن شاء الله ، وهو : إن الحمد لله ، نحمده ،
ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله
فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ,
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – وذكر الآيات الكريمات ” انتهى من ” شرح مشكل الآثار ”
(1/6) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله :
” لهذا استُحبت – يعني خطبة الحاجة – وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا ،
من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك ، وموعظة الناس ومجادلتهم ، أن يفتتح بهذه
الخطبة الشرعية النبوية .
وكان الذي عليه شيوخ زماننا الذين أدركناهم وأخذنا عنهم وغيرهم يفتتحون مجلس
التفسير أو الفقه في الجوامع والمدارس وغيرها بخطبة أخرى . مثل : الحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ورضي الله
عنا وعنكم وعن مشايخنا وعن جميع المسلمين ، أو وعن السادة الحاضرين وجميع المسلمين
.
كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة ، وكل قوم لهم نوع غير نوع
الآخرين ، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح ، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة
العباد بعضهم بعضا ، والنكاح من جملة ذلك ، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال
والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم ، وما سوى ذلك إن لم
يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح ، إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم “.
انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (18/ 287) .
ويقول ابن علان رحمه الله :
” وقيل : بل الخطبة على عمومها ، ولعل أبا داود والترمذي أتيا بها لفظا ، وأسقطاها
خطا ، وذلك كاف ” انتهى من ” الفتوحات الربانية ” (6/63) .
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله :
” هذه الخطبة تفتتح بها جميع الخطب ، سواء كانت خطبة نكاح ، أو خطبة جمعة ، أو
غيرها ، فليست خاصة بالنكاح – كما قد يظن – وفي بعض طرق حديث ابن سعود التصريح بذلك
كما تقدم ” انتهى من ” خطبة الحاجة ” (ص/36) .
واستدلوا على ذلك بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : الأحاديث الكثيرة الواردة في افتتاح النبي صلى الله عليه وسلم بعض
خطبه ومواعظه وكلامه بخطبة الحاجة . ولم يخصها بالنكاح ، فقد تكلم بها النبي صلى
الله عليه وسلم بين يدي ضمام بن ثعلبة ، ولم يكن في ذلك نكاح ولا جمعة ولا عيد .

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ( أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ … فَقَالَ
: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي
عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ ، فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ ) ، قَالَ : فَقَالَ : أَعِدْ
عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ . فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . قَالَ : فَقَالَ : لَقَدْ سَمِعْتُ
قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ ، فَمَا
سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ ،
قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، قَالَ :
فَبَايَعَهُ ) رواه مسلم (868) .
ومن ذلك أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّشَهُّدَ
فِي الحَاجَةِ ) رواه الترمذي (1105) وقال : حديث حسن .
فقالوا : إن كلمة ( الحاجة ) تشمل كل حاجة ، سواء كانت درسا وموعظة وخطبة ، أم
مصنفا وتأليفا ورسالة ، أم غيرها .
يقول السندي رحمه الله :
” الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره ، فينبغي للإنسان أن يأتي بهذا ليستعين به على
قضائها وتمامها ” انتهى من ” حاشيته على سنن النسائي ” (3/105) .
الدليل الثاني : العموم الوارد في بعض الروايات ، منها ما ورد في ” سنن أبي داود ”
(2118) عن عبد الله بن مسعود قوله : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ خُطبَةَ الحَاجَةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِهِ ).
الدليل الثالث : افتتاح بعض العلماء كتبهم بهذه الخطبة ، كما سبق عن كل من الإمام
الطحاوي (ت229هـ)، وابن تيمية (728هـ)، وابن القيم (751هـ) .
مناقشة الأدلة :
بالتأمل في أدلة الفريقين يمكننا أن نتبين رجحان القول الأول لقوة أدلته .
أما الجواب على أدلة القول الثاني :
فدليلهم الأول ليس فيه نص في محل الخلاف الذي هو ابتداء الكتب والمصنفات ، فجميع
الروايات الواردة في خطبة الحاجة إنما هي في الخطب القولية واللفظية ، أما السنة
العملية للنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء
وغيرهم فليس في شيء منها خطبة الحاجة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مبين للمجمل
، وموضح للمبهم .
أما الدليل الثاني فلا يسلَّم لهم أيضا ، فقد وردت زيادة ( في النكاح وغيره ) من
طريق أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود . وهذا إسناد منقطع ، فأبو
عبيدة لم يسمع من أبيه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وهذا ما
عقب به النسائي على الحديث بعد أن أخرجه في ” السنن ” (1404) قال : ” أبو عبيدة لم
يسمع من أبيه شيئا “
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
” هذه الزيادة ( في النكاح وغيره ) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق ،
وظاهرها أنها من قول ابن مسعود ، لكن خالف شعبة ، فجعلها من قول أبي إسحاق ، حيث
قال : قلت لأبي إسحاق : هذه في خطبة النكاح أو في غيرها ؟ قال : في كل حاجة . رواه
الطيالسي ” انتهى من ” خطبة الحاجة ” (ص10) وعلى فرض صحة الزيادة فالمقصود بها غير
النكاح من الكلام والمواعظ ، وليس الكتابة والتأليف .
وأما الدليل الثالث فهو محل الخلاف ، فلا يستدل بموضع النزاع ، كما لا ينبغي أن
يستدل برأي بعض العلماء على الآخرين ، وإنما العبرة بالسنة النبوية المرفوعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله .
وحين نقول بعدم السنية فذلك لا يعني عدم الجواز ، فلا مانع أن يستفتح الكتاب بخطبة
الحاجة أحيانا ، ولكن ذلك لا يعني الاستحباب والندب .
هذا فضلا عن أن كل من بدؤوا بعض كتبهم بخطبة الحاجة : كان هديهم الأكثر على خلاف
ذلك ، فالطحاوي لم يفتتح سوى كتاب واحد بهذه الخطبة ، أما بقية كتبه فلم يفعل .
وكذلك الشأن لدى كل من ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعا .
وجواب الشيخ الألباني رحمه الله عن ذلك بقوله : ” هي ليست فرضا حتى لا تترك ، بل قد
يكون العكس هو الأصوب ، وهو تركها أحيانا ، حتى لا يتوهم أحد فرضيتها “.
انتهى من ” خطبة الحاجة ” (ص/42) .
مثل هذا الجواب يصلح لو كانت ثبتت الحجية بأدلة صريحة من قول النبي صلى الله عليه
وسلم بالحث على بداءة الكتب بها أو فعله ، ولكن لما لم يثبت ذلك فترك العلماء لها
يؤيد عدم سنيتها.
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله :
” وهؤلاء المؤلفون من علماء الإسلام ، لا تراهم كذلك ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى ، فإنه في كتبه وفتاويه يفتتح بها تارة ، وبغيرها تارة أخرى .
ولهذا فإن ما تشاهده وتسمعه في عصرنا من التزام بعض الكتاب بافتتاح رسائلهم بها ،
وخطبهم بها ، كل هذا التزام لا أعرفه في الحياة العملية في هدي النبي صلى الله عليه
وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم ، ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان ، ومن ادعى
فعليه الدليل .
بهذا التقرير تعلم فقه أصحاب السنن رحمهم الله تعالى في ترجمة خطبة الحاجة في ”
كتاب النكاح ” وتقرير العلماء بمشروعيتها بين يدي عقد الزواج ” انتهى من ” تصحيح
الدعاء ” (ص/454-455)، وانظر : ” معجم المناهي اللفظية ” (ص: 590) .
فالخلاصة :
أن الهدي العام في المؤلفات هو البداءة بالبسملة ، أو الحمدلة العامة بأي صيغة ترد
، أما خطبة الحاجة المشتملة على ألفاظ معينة وآيات محددة : فليست سنة في المؤلفات
والمصنفات.
بل قد قال كثير من العلماء إنما تستحب في خطبة النكاح فقط ، لأنك عند البحث
والتفتيش تتبين أن عشرات المحدثين والفقهاء في كتب الفقه والحديث إنما أوردوا خطبة
الحاجة في معرض أبواب النكاح وآدابه وأحكامه ، ولو رحنا نسوق ذلك لطال المقام بنا
جدا .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android
at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android