أريد الاستيضاح منكم حول حكم الإسبال ففي موقعكم وجدت فتاوى تحرم الإسبال (أنظر على سبيل المثال الفتاوى رقم 10534، 762، 130052) وفي نفس الوقت وجدت على موقعكم فتاوى تذكر أنّ الجمهور لا يرى الحرمة إن كان الإسبال دون خيلاء (أنظر على سبيل المثال الفتوى رقم 72858 ، 10060)، فما الحكم الصحيح في هذه المسألة الخطيرة لما يترتب عليها من عقاب في الآخرة ، خصوصاً وأن هناك حديثا يدل على أنّ الإسبال لا يكون إلا خيلاء (انظر الحديث في فتوى رقم 130052)؟
تحريم إسبال الثوب وإن لم يقصد الخيلاء
السؤال: 218290
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
إسبال الثوب تحت الكعبين على سبيل الخيلاء من المحرمات المتفق عليها عند عامة العلماء ، بل هو من كبائر الذنوب ، كما ذكر الحافظ العراقي في “طرح التثريب” (8/172) ، وابن حجر الهيتمي في “الزواجر عن اقتراف الكبائر” (1/ 259).
ويدل على ذلك حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ ). متفق عليه.
وفي لفظ آخر عند البخاري (5791) : ( مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً : لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وعند مسلم ( 2085): (مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْمَخِيلَةَ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ورواه أحمد (8778) من حديث أبي هريرة بلفظ : ( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى الَّذِي يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا). وصححه الألباني.
قال النووي: ” قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْخُيَلَاءُ ، وَالْمَخِيلَةُ ، وَالْبَطَرُ ، وَالْكِبْرُ ، وَالزَّهْوُ ، والتبختر ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ حَرَامٌ “. انتهى من “شرح صحح مسلم” (14/60).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” والأصل في ذلك قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ، وقوله تعالى: ( وَلا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً) ، وقال سبحانه: ( كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ) .
فذم الله سبحانه وتعالى الخيلاء والمرح والبطر ، وإسبالُ الثوب تزيناً موجب لهذه الأمور” انتهى من “شرح عمدة الفقه” (ص: 362).
ومن الأحاديث الدالة على أن الإسبال مع الخيلاء من أشد الذنوب : ما أخرجه البخاري ( 3485) عن ابن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ).
وفي صحيح مسلم (2088) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ).
” قَالَ اِبْن فَارِس : التَّجَلْجُل أَنْ يَسُوخ فِي الْأَرْض مَعَ اِضْطِرَاب شَدِيد وَيَنْدَفِع مِنْ شِقّ إِلَى شِقّ , فَالْمَعْنَى يَتَجَلْجَل فِي الْأَرْض أَيْ يَنْزِل فِيهَا مُضْطَرِبًا مُتَدَافِعًا “. انتهى من ” فتح الباري” لابن حجر (10/ 261) .
ثانياً :
أما إسبال الثوب إذا لم يكن على سبيل الخيلاء ، فهو من المسائل الخلافية بين العلماء:
والمعتمد في الفتوى في موقعنا : أن الإسبال محرم مطلقاً ، ولو لم يكن للخيلاء.
وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد ، واختاره ابن العربي المالكي والذهبي ، ومال إليه الحافظ ابن حجر ، ورجحه : الصنعاني ، ومن المعاصرين : الشيخ ابن باز ، والشيخ الألباني ، والشيخ ابن عثيمين، وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء.
ينظر: رسالة “استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال” للصنعاني ، “الإنصاف” (1/ 472) ، “سير أعلام النبلاء” (3/234) ، “فتاوى اللجنة الدائمة” (24/232) .
واستدلوا على ذلك بعدة أدلة ، منها :
1- الأحاديث المطلقة في النهي عن الإسبال ، دون تقييده بالخيلاء .
ومنها : ما رواه البخاري ( 5787) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ ).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ( الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ) رواه مسلم (106),
فلم يقيد تحريم الإسبال بالخيلاء .
2- وعن أبي سعيد قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ ، لَا جُنَاحَ – أَوْ لَا حَرَجَ – عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) رواه أحمد (17/52) وصححه الألباني .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عقوبتين للإسبال ، الثانية منهما لمن جره خيلاء ، فتكون الأولى لمن أسبل ثيابه لغير الخيلاء .
قال الصنعاني رحمه الله : ” وقد دلت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار، وهو يفيد التحريم ، ودل على أن من جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه ، وهو دال على التحريم ، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه ، وهو مما يبطل القول بأنه لا يحرم إلا اذا كان للخيلاء” انتهى من “استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال” (ص: 26).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :”إسبال الإزار :
إذا قصد به الخيلاء ، فعقوبته أن لا ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ، ولا يكلمه ، ولا يزكيه ، وله عذاب أليم .
وأما إذا لم يقصد به الخيلاء ، فعقوبته أن يعذَّب ما نزل من الكعبين بالنار … ولأن العملين مختلفان ، والعقوبتين مختلفتان ، ومتى اختلف الحكم والسبب امتنع حمل المطلق على المقيد ، لما يلزم على ذلك من التناقض” انتهى من ” مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ” (12/308) .
3- وقالوا: إن مجرد جر الثوب يستلزم الخيلاء ، ولو لم يقصد ذلك.
ويدل على هذا حديث أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (َإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَخِيلَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ ) ، رواه أبو داود (4084) وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (770).
ففي هذا الحديث : أن مجرد الإسبال من المخيلة ، أراد ذلك أو لم يرده.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ زرارة الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَيْنَا هُوَ يَمْشِي قَدْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ إِذْ لَحِقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَ بِنَاصِيَةِ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ.
قَالَ عَمْرٌو : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي رَجُلٌ حَمْشُ السَّاقَيْنِ.
فَقَالَ: ( يَا عَمْرُو إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).
وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ مِنْ كَفِّهِ الْيُمْنَى تَحْتَ رُكْبَةِ عَمْرٍو فَقَالَ: (يَا عَمْرُو هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ) ثُمَّ رَفَعَهَا ، ثُمَّ وَضَعَهَا تَحْتَ الثَّانِيَةِ ، فَقَالَ (يَا عَمْرُو هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ). رواه أحمد (17782) ، وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” (6/405).
قال الحافظ ابن حجر: ” وَرِجَاله ثِقَات، وَظَاهِره أَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُور لَمْ يَقْصِد بِإِسْبَالِهِ الْخُيَلَاء ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً “. انتهى من “فتح الباري” (10/264).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: لَا يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَاوِز بِثَوْبِهِ كَعْبه , وَيَقُول : لَا أَجُرّهُ خُيَلَاء , لِأَنَّ النَّهْي قَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظًا , وَلَا يَجُوز لِمَنْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظ حُكْمًا أَنْ يَقُول : لَا أَمْتَثِلهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّة لَيْسَتْ فِيَّ , فَإِنَّهَا دَعْوَى غَيْر مُسَلَّمَة , بَلْ إِطَالَته ذَيْله دَالَّة عَلَى تَكَبُّره “.
قال ابن حجر معلقا عليه: ” وَحَاصِله : أَنَّ الْإِسْبَال يَسْتَلْزِم جَرّ الثَّوْب ، وَجَرّ الثَّوْب يَسْتَلْزِم الْخُيَلَاء وَلَوْ لَمْ يَقْصِد اللَّابِس الْخُيَلَاء”. انتهى من ” فتح الباري” (10/264).
وقد سبق بيان هذا في عدة فتاوى سابقة ، انظر منها : الفتوى رقم (762) ، (72858) .
وقد سبق نقل نصوص المذاهب الأربعة في هذه المسألة في جواب السؤال (102260).
والحاصل :
أن لكلٍّ من القولين وجه معتبر ، وقد قال بكل واحد منهما ، علماء معتبرون .
ويرجع سبب الاختلاف : إلى أن بعض الأحاديث جاءت بتحريم الإسبال مطلقاً ، وفي بعضها تقييد ذلك بالخيلاء ، فمن رأى حمل المطلق على المقيَّد في هذه المسالة جعل التحريم خاصاً بجر الثوب خيلاء ، ومن لم يحمل المطلق على المقيد هنا لم يخص التحريم بالخيلاء.
ولذلك لا تثريب على من قال بأحد القولين مجتهداً أو مقلداً لمن قال به من أهل العلم ، وهي من مسائل الاجتهاد التي لا يُنكر فيها طرف على آخر .
ولا شك أن الأحوط للإنسان والأبرأ لذمته : أن لا ينزل ثوبه عن الكعبين خروجاً من خلاف العلماء ، ولأن من لم يقل بالتحريم منهم فهو يقول بالكراهة غالباً .
قال ابن عبد البر رحمه الله : ” قال ابن عبد البر : ” وَهَذَا الْحَدِيثُ – يعني : حديث : ( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى الَّذِي يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا) – : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ وَلَا بَطَرٍ : أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ ، غَيْرَ أَنَّ جَرَّ الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَسَائِرِ الثِّيَابِ مَذْمُومٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَأَمَّا الْمُسْتَكْبِرُ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ” انتهى من “التمهيد ” (3/ 244) .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة