كنت في مجلس ، فتكلم أحد الشباب في ذلك المجلس عن أهل الدين في حينا الذي نسكنه ، وذكر كلاما قبيحا جدا , في شأنهم جميعا ، فلما قال هذا نهرته بقوة ، ودافعت عن أهل الصلاح حمية لدين الله , فصار بيني وبينه مساجلة ومشادة وانفض المجلس .
فهجرت هذا الرجل ، وهجرني مدة ، فلا أسلم عليه ولا يسلم علي , ثم إني تذكرت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الهجر وحُرمة ذلك ، فألقيت عليه السلام ، لكن المفاجأة أن هذا الرجل أعاد ذلك الكلام القبيح مرة أخرى ، وبقوة ويقوله عن قناعة تامة وبكل هدوء , فاشتطت أنا غضبا فسببته ، وكدت أن أمد يدي عليه! لكن هدأ الأمر ثم ذهبت وتركته .
سؤالي : أنا هجرت هذا الرجل ،ولم أعد أسلم عليه , وأرى أن في سلامي عليه ذلا ، كيف وهو قال ما قال مرتين ، وأنا ما فعلت ذلك انتصارا لنفسي وإنما لدين الله وعباده الصالحين فهل توافقوني على هذا ؟
هجر مَن يستهزئ بأهل الدين ويصر على ذلك .
السؤال: 219237
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
النهي عن هجران المسلم ، ثابت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك :
ما رواه أبو أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ) رواه البخاري (6077) ، ومسلم (2560) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أَوِ ارْكُوا، هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا ) رواه مسلم (2565) ، وغيرها من الأحاديث .
ثانيا:
المراد بالأحاديث التي تنهى عن الهجر فوق ثلاث : ما كان فيها الهجر لحظوظ النفس والأمور الدنيوية ، فأما الهجر لأجل الدين : فتجوز فيه الزيادة على الثلاث ، نصَّ عليه الإمام أحمد ، كما ذكر ذلك ابن رجب في ” جامع العلوم والحكم ” (2/269) .
وقال الإمام مالك : ” ويهجر أهل الأهواء والبدع والفسوق لأن الحب والبغض فيه واجب ، ولما في ذلك من الحث على الخير والتنفير من الشر والفسوق ” انتهى من ” الذخيرة ” (13/314) .
وقال أبو سعيد الخادمي الحنفي في الوعيد على الهجر فوق ثلاث ليال : ” محمول على الهجرة لأجل الدنيا ، وأما لأجل الآخرة والمعصية والتأديب : فجائز ؛ بل مستحب من غير تقدير ” انتهى من ” بريقة محمودية ” (2/267) .
وفي ” الموسوعة الفقهية الكويتية ” (36/122) : ” يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية ، وقيل: يجب إن ارتدع به ، وإلا كان مستحبا ” انتهى .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : ” أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ قَالَ : ” فَنَهَاهُ ، وَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ ، وَقَالَ : إِنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْدًا وَلا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ، قَالَ : فَعَادَ ، فَقَالَ : أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا ” أخرجه البخاري (5162) ، ومسلم (1954) .
قال النووي – رحمه الله – ” فيه : هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنَّة مع العلم ، وأنه يجوز هجرانه دائماً ، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما أهل البدع ونحوهم : فهجرانهم دائماً ، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له ، كحديث كعب بن مالك وغيره ” انتهى من ” شرح مسلم ” (13/106) .
وهجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ابناً له ، إلى أن مات ، فقد روى الإمام أحمد أن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ ) ، ” فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ هَذَا ، قَالَ: فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللهِ حَتَّى مَاتَ ” وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني في ” غاية المرام ” (ص/234) .
وفي رواية مسلم ” فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ: فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَقَالَ: ” أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ ” أخرجها مسلم برقم (1017).
ثالثا :
لا يعني ذلك : أن وصله فيه ذلا عليك ، أو على الدين وأهله ؛ بل الأمر في ذلك مبني على المصلحة ؛ فمتى رجوت أن ينتفع بوصلك ، وسلامك عليه ، وتهدأ نفسه ، وتزول حدته على أهل الدين ، وتخف عدواته لهم : فالأولى لك وصله ، لا سيما وهو مسلم ، لم تسقط حقوقه كلها بما أتى من خطأ أو شر أو معصية .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (171445) ، ورقم : (22872) ورقم : (93146) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة