يطبخ الناس عندنا طعاماً خاصاً في اليوم الأربعين لوفاة الميت ، ونحن نعتبر هذا حراماً وبالتالي لا نذهب إلى مثل هذه الوليمة ، إلا أنهم ، أي : جيراننا أصحاب الميت ، أرسلوا الطعام إلى بيتنا وأعطوه لأبنائي ، ولأني لا أتحدث لغتهم ، ولا أريد أن أجرح مشاعرهم ، قمت بأخذه وإعطائه لعمتي أمّ زوجي ، وأخبرتها أنه حرام وأن عليها أن تتخلص منه ، إما بإعطائه للحيوانات ، أو إعادته إلى أصحابه ، فأعطته بدلاً من هذا وذاك لزوجها الذي يقول إن ممارسة هذه العادة حرام أما الطعام فلا ، وبالتالي لا بأس من تناوله . فأريد أن أعرف حكم الطعام نفسه ، هل يجوز أكله أم لا ؟ وإذا كان لا يجوز أكله فماذا نصنع به ؟ وهل يقع عليّ ذنب إن أعطيته لشخص أخر فأكل منه ؟
حكم الأكل من الطعام الذي يصنعه أهل الميت في العزاء أو الأربعينية
السؤال: 220923
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
السنة أن يبادر الجيران والأقارب والأصدقاء بصنع الطعام وإهدائه لأهل الميت ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة قال : ( اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا ، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ ) رواه الترمذي (998) ، وحسنه ، وأبو داود (3132) ، وابن ماجه (1610) ، وحسنه ابن كثير ، والشيخ الألباني.
قال الإمام الشافعي : " وَأُحِبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِ يَمُوتُ وَلَيْلَتِهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ ، وَذِكْرٌ كَرِيمٌ ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ قَبْلَنَا وَبَعْدَنَا ". انتهى من "الأم " (1/317) .
وقال ابن قدامة : " يُسْتَحَبُّ إصْلَاحُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ ، إعَانَةً لَهُمْ ، وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِمْ عَنْ إصْلَاحِ طَعَامٍ لَأَنْفُسِهِمْ ". انتهى من "المغني" (3/496) .
وينظر جواب السؤال : (213425) .
ثانياً :
كره جمهور العلماء لأهل الميت أن يصنعوا طعاماً لتقديمه للناس ، سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو الأربعين أو على رأس السنة ، فكل ذلك مذموم .
قال ابن الهمام الحنفي: " وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ ". انتهى من "فتح القدير" (2/142).
وقال الحطَّاب المالكي : " أَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا ، وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ : فَقَدْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ ، وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَائِمِ ". انتهى من "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/228).
وقال النووي : " وَأَمَّا إِصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا ، وَجَمْعُهُمُ النَّاسَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ ". انتهى من "روضة الطالبين" (2/145).
وقال ابن قدامة : " فَأَمَّا صُنْعُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ : فَمَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ ، وَشُغْلًا لَهُمْ إلَى شُغْلِهِمْ ، وَتَشَبُّهًا بِصُنْعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ". انتهى من "المغني" (3/ 497).
وقال شيخ الإسلام : " وَأَمَّا صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهِ ، فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِدْعَةٌ ، بَلْ قَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَتَهُمْ الطَّعَامَ لِلنَّاسِ مِنْ النِّيَاحَةِ ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِهِ طَعَامٌ ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (24/316) .
وفي " فتاوى اللجنة الدائمة " (9/ 145) : " أما صنع أهل الميت طعاما للناس واتخاذهم ذلك عادة لهم : فغير معروف فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن خلفائه الراشدين ، بل هو بدعة ، فينبغي تركها ؛ لما فيها من شغل أهل الميت إلى شغلهم ، ولما فيها من التشبه بصنع أهل الجاهلية ، والإعراض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ". انتهى .
وقالوا : " أما ما يفعله أهل الميت اليوم من عشاء وأربعينية فلا أصل له ، وإذا أرادوا الصدقة عن الميت بإطعام الطعام فينبغي أن لا يتقيدوا بيوم معين ، ولو تصدقوا على الفقراء بنقود فهو خير لهم ؛ لأنه أبعد عن الرياء وأنفع للفقراء وأبعد عن التشبه بغير المسلمين ". انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (9/ 149).
والقول بالكراهة هو الذي عليه مذاهب الأئمة الأربعة ، كما سبق نقل أقوالهم ، وذهب بعض العلماء إلى التحريم .
قال ابن مفلح : " وَقِيلَ : يَحْرُمُ ، وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ : مَا يُعْجِبُنِي ، وَنَقَلَ جَعْفَرٌ : لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ ، وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ : هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَنْكَرَهُ شَدِيدًا ". انتهى من " الفروع" (3/408).
ويتوجه القول بالتحريم إذا كان ثمن الطعام من أموال اليتامى والقصر .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : " وقد صرح الفقهاء رحمهم الله أنه يكره لأهل الميت صنع الطعام للناس ، وأن هذا طعام المأتم المنهي عنه.
وإن كان الطعام في تركة الميت ، وفي الورثة قصار ، أو غائبون ، أو من لم يرض من الورثة : فهو حرام ؛ لما فيه من التصرف بأموال الغير بدون إذن شرعي" انتهى من "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم" (3/ 232).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي : " فتكليف أهل الميت بصنع الطعام خلاف السنة، وهو إلى البدعة أقرب ، بل قد يكون حراماً إذا كان من أموال اليتامى والقصار كما يفعله بعض الجهال ، حيث يقدمون على تركة الميت التي فيها حق اليتامى والأرامل ، ويأخذون منها الأموال لوضع الفرش والبسط وكلفة العزاء وكأنه حدث عرس ، فيتكلفون في ذلك ويضرون بآل الميت ، فيكون هذا الطعام من أكل أموال اليتامى ظلماً ، والفاعلون لذلك وصفهم الله بأنهم : ( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) ، نسأل الله السلامة والعافية ". انتهى من "شرح زاد المستقنع " (86/ 15، بترقيم الشاملة آليا) .
وقال: " وأما بالنسبة لصنع الطعام من أهل الميت صدقةً عن موتاهم أو نحو ذلك مما ابتلي به بعض الناس في هذا الزمان فهذا هو الذي قال عنه العلماء : إنه لا يشرع ، وإذا كان من أموال اليتامى فإنه أشد حرمة ، ويجب على الولي أن يضمن المال الذي أنفقه ، فإذا أنفق من مال اليتيم في مثل هذه الأمور فإنه يجب عليه الضمان ؛ لأن اليتيم غير مسئول عن هذا الطعام ، ولا يجوز أن يحمّل ماله هذه النفقة التي لا وجه لها في الشرع ، فيجب على المنفق ضمان المال وعزمه " انتهى من "شرح زاد المستقنع" (86/ 17، بترقيم الشاملة آليا)
ثالثاً :
يستثنى من الكراهة : صنع الطعام لمن ينزل بهم من الضيوف إذا كان صنعه على سبيل الإكرام ، لا بسبب الوفاة .
قال ابن قدامة : " وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ جَازَ ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُضَيِّفُوهُ " انتهى من "المغني" (3/497).
قال الشيخ ابن باز : " أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء : فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة ، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاؤوا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام " انتهى من "فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز" (9/325).
وفي "فتاوى اللجنة الدائمة" (8/ 378) : " وأما صنع الطعام من أهل الميت للناس فهو خلاف السنة ، بل هو منكر… إلا إذا نزل بهم ضيف : فلا بأس " انتهى.
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي : " هنا مسألة عمت بها البلوى ، وهي مسألة الضيف إذا نزل على آل الميت ، فإذا كان هناك ضيف ، خاصةً من القرابات : كأبناء عمٍ أو إخوانٍ نزلوا وجاءوا من سفر ونزلوا على الإنسان ، وهم ضيوف لهم حق الضيافة ، فذبح لهم ، لا لأجل الموت ولا صدقةً على الميت ، بل إكراماً للضيف : فلا حرج ؛ لأن هذا منفكٌ عن أصل مسألتنا ، فليس من العزاء ولا هو متعلق بالعزاء ، وإنما هو من باب إكرام للضيف الذي أمر الله به ورسوله ، فيكرم الضيف ولا حرج ". انتهى من "شرح زاد المستقنع" (86/ 15، بترقيم الشاملة آليا)
رابعاً :
كما يكره لأهل الميت صنع الطعام لمن يقدم لعزائهم ، كذلك يكره الأكل من الطعام الذي أعدوه لهذا السبب ، وإن كان الطعام من مال الورثة الصغار فالأكل منه : حرام .
قال البهوتي : " وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، أَوْ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ : حَرُمَ فِعْلُهُ ، وحَرُمَ الْأَكْلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، أَوْ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ". انتهى من "كشاف القناع" (2/149) .
وقال ابن حجر الهيتمي : " وَمَا اُعْتِيدَ مِنْ جَعْلِ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِيَدْعُوا النَّاسَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، كَإِجَابَتِهِمْ لِذَلِكَ " انتهى من "تحفة المحتاج" (3/207).
وفي "الفواكه الدواني " (1/285) : " وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَنَعَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بَالِغًا رَشِيدًا : فَلَا حَرَجَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ ".
وفي "الموسوعة الفقهية" (16/ 44) : " وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الضِّيَافَةُ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ ؛ لأِنَّهَا شُرِعَتْ فِي السُّرُورِ ، لاَ فِي الشُّرُورِ… وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الأْكْل مِنْ طَعَامِ أَهْل الْمَيِّتِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ تَرِكَةٍ وَفِي مُسْتَحِقِّيهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ : حُرِّمَ فِعْلُهُ ، وَالأْكْل مِنْهُ .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، بِأَنَّهُ يَحْرُمُ تَهْيِئَةُ الطَّعَامِ لِنَائِحَاتٍ ؛ لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي أَيَّامٍ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهَا كَالْيَوْمِ الأْوَّل ، وَالثَّالِثِ ، وَبَعْدَ الأْسْبُوعِ " انتهى .
والحاصل :
أن صنع أهل الميت الطعام لمن ينزل بهم معزياً : مكروه ، ويكره لمن حضر للعزاء : الأكلُ من هذا الطعام ، بل يحرم إن كان مصنوعاً من أموال اليتامى والصغار .
وأما الطعام الذي أهدي لك من أهل الميت : فكان ينبغي عليك نصحهم وعدم قبوله زجراً لهم عن العودة لمثل هذا الفعل ، وبما أنك قد قبلته فلا حرج عليك من الأكل منه أو التصدق به على من يحتاجه ؛ لأن هذا الطعام – وإن كان يكره صنعه – ليس محرماً لذاته ، فليس هو ميتة ، ولا نحوها من المحرمات ؛ وإنما كره لأجل ما ذكر من العادة المبتدعة ؛ فأما من أهدي إليه : فلم يشارك في البدعة المذكورة .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة