شاهدت حوارا على قناة فضائية بين شيخين : أحدهما أفتى بحرمة جميع الأغاني المصاحبة للموسيقى ، بغض النظر عن الكلام المُغنّى به ، واستدل بإجماع العلماء على ذلك .
وكان رأي الثاني : جواز الأغاني المصحوبة بالموسيقى ، إن لم تحتو على كلام فاحش ، أو اختلاط ماجن ، وأنكر على الآخر استدلاله بالإجماع ، بل قال إنه لا يوجد شيء اسمه إجماع في الفقه ، فلعله لم يعلم من أفتى بخلاف ذلك ، واستدل أيضا على الإباحة بحديث الجاريتين عندما غنتا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حكم الأغاني وآلات المعازف
السؤال: 222730
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
جماهير العلماء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة ( أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ) وأتباعهم على أن الإجماع حجة شرعية ، وقد احتجوا به على مسائل كثيرة ، وقد استدلوا على حجية الإجماع بأدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وانظر لبيان ذلك الفتوى رقم : (197937) .
فإنكار الإجماع بعد ذلك إنكار غير صحيح .
وينظر للفائدة : الرد على القرضاوي والجديع لـ عبد الله رمضان موسى (ص/81) وما بعدها .
ثانياً :
قال الفقيه المحقق ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله :
” الأوتار والمعازف ، كالطُّنْبُور والعُود والصَّنْج .. وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسَّفاهة والفُسوق ، وهذه كلُّها محرَّمة بلا خِلاف ، ومَن حكى فيه خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هَواه ، حتى أصمَّه وأعماه ، ومنعه هداه ، وزلَّ به عن سنن تَقواه .
وممَّن حكَى الإجماع على تحريم ذلك كلِّه : الإمام أبو العباس القرطبي ، وهو الثقة العدل ، فإنَّه قال كما نقَلَه عن أئمَّتنا وأقرُّوه : أمَّا َالمَزَامِير والكُوبَة فلا يُختَلف فِي تحريم سماعها ، ولم أسمعْ عن أحدٍ ممَّن يُعتَبر قوله من السلف ، وأئمَّة الخلف مَن يبيح ذلك ، وكيف لا يُحرَّم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ، ومهيج للشهوات والفساد والمجون ، وما كان كذلك لم يُشَكَّ فِي تحريمه ولا فِي تفسيق فاعله وتأثيمه .
وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك أيضًا إمامُ أصحابنا المتأخِّرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي ، فإنَّه قال فِي ” تقريبه ” بعد أنْ أورد حديثًا فِي تحريم الكُوبَة ، وفي حديث آخَر : أنَّ اللهَ يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبةٍ ، والعَرطَبة : العُود ، ومع هذا فإنَّه إجماع ” انتهى من ” كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ” (ص/118) .
وممن حكى الإجماع أيضا : أبو الحسين البغوي ، فإنه قال :
” وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيم المزامير والملاهي وَالْمَعَازِف ” انتهى من ” شرح السنة ” (12/383) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
” آلَةُ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ ، وَالْمِزْمَارِ ، وَالشَّبَّابَةِ … آلَةٌ لِلْمَعْصِيَةِ ، بِالْإِجْمَاعِ ” انتهى من ” المغني ” (9/132) .
وقد نقل الإجماع على تحريم الغناء المصاحب للموسيقى جمع من العلماء ، من مختلف المذاهب المتبوعة عند أهل الإسلام ، كالإمام ابن جرير الطبري ، وأبي بكر الآجري ، وأبي الطيب الطبري الشافعي ، وأبي عمرو ابن الصلاح ، وغيرهم .
ينظر نصوصهم ، والكتب التي وثقت ذلك في كتاب : ” الرد على القرضاوي والجديع ” (ص/351) وما بعدها . وينظر أيضا : ” إغاثة اللهفان ” لابن القيم (1/415) .
ثالثاً :
أما إذا ثبت الإجماع ، على تحريم الغناء ، فالأمر فيه ظاهر ، فرد مثل ذلك مجازفة خطيرة ، لا سيما وقد توارد على نقله ، والاحتجاج به جمع من الفقهاء .
وأما إذا لم تتقرر صحة الإجماع ، وثبت الخلاف فيه ؛ فإن ذلك لا يعني عدم تحريم الغناء ؛ فإن من ذهب إلى تحريمه لم يستدل بمجرد الإجماع على ذلك ، بل استدل له بأدلة عديدة ، من الكتاب والسنة ، وأقوال السلف ، وعملهم .
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله في ذكر تلك الأدلة وأقوال العلماء ، وذَكَرَ شيئاً من المفاسد المترتبة على سماع الأغاني والموسيقى في ” إغاثة اللهفان ” في الموضع المشار إليه آنفا ، فارجع إليه ، وانظر الفتوى رقم : (5000) ففيها بعض هذه الأدلة والأقوال .
رابعاً :
أما استدلال المبيح للغناء والموسيقى بحديث الجاريتين فهو استدلال معكوس ؛ لأن هذا الحديث أدل على تحريم الغناء وذمه ، منه على إباحته ؛ وذلك في قول أبي بكر رضي الله عنه : ( مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ) ، فسمَّى أبو بكر الغناء بـ ( مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ ) ، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ، ولا شك أن إضافة الشيء إلى الشيطان تدل على ذمه والتنفير منه ، فكيف يقول قائل : إن مزمار الشيطان حلال ؟! .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر تسميته للغناء بمزمار الشيطان ، وإنما قال له : ( دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ ) وكان ذلك في أيام عيد الأضحى . رواه البخاري (988) ، ومسلم (892) .
وقد ورد في هذا الحديث أن هاتين الجاريتين كانتا تضربان ( يعني بالدف ) .
فالحديث ليس فيه دليل على إباحة الغناء مطلقا كما فهم البعض ، بل فيه أن مثل هذا الغناء يباح في أيام العيد فقط ، ولاحظ أن في الحديث أنهما كانتا جاريتين ( يعني بنتين صغيرتين دون البلوغ ) ، وفي أيام عيد ، وتغنيان بأبيات من الشعر قيلت في الشجاعة والحروب .
فهذا هو الذي يدل الحديث على إباحته ، لكن من أين يؤخذ من الحديث أن غناء المرأة الكبيرة فاتنة الصوت ومعها من آلات الموسيقى ما يفسد القلب ويؤثر فيه .. من أين يؤخذ من الحديث أن هذا الغناء حلال ؟!
بل الحديث – كما سبق- يدل على المنع من الغناء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر رضي الله عنه على تسميته بمزمار الشيطان ، إلا أنه يرخص في غناء البنت صغيرة السن ، لاسيما في أيام العيد ، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة عن الجاريتين : ( وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ ، قَالَتْ : وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ ) ؛ لتدفع بذلك توهم أن حالهما حال المغنيات الذي تقرر منعه وتحريمه .
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله :
” قد بين في هذه الرواية أنهما لم تكونا مغنيتين ، والمغنية : التي اتخذت الغناء صناعة وعادة ، وذلك لا يليق بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأما الترنم بالبيت والبيتين ، وتطريب الصوت بذلك ، بما ليس فيه فحش ، أو ذكر محظور : فليس مما يسقط المروءة ، أو يقدح في الشهادة .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ينكر من الغناء النَّصْب والحُداء ونحوهما من القول ، وقد رخص فيه غير واحد من السلف رحمهم الله .
وحكم اليسير من الغناء ، خلاف حكم الكثير منه ، كقول الشعر …
وقوله : ( هذا عيدنا ) : يعتذر به عنهما ، يريد أن إظهار السرور في العيد : من شعار الدين ، وإعلان أمره ، والإشادة بذكره ، وليس كسائر الأيام سواء ” انتهى من ” أعلام الحديث شرح صحيح البخاري ” للخطابي (1/594-595) .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله ، بعدما نقل كلام الخطابي السابق :
” وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد ؛ لأن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علل بأنها أيام عيد ، فدل على أن المقتضي للمنع قائم ، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد . وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان ، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع ” انتهى من ” فتح الباري ” لابن رجب (8/433) .
خامساً :
أما قول المبيح للغناء : إن أغلب الشيوخ يفتون بحرمة الأغاني من باب سد الذرائع ، فليس الأمر كذلك ، بل لهم على تحريمه أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأدلة السنة صريحة في تحريم جميع آلات المعازف .
ومن تأمل أدلة تحريم الغناء والمفاسد المترتبة عليه وإفساده للقلب تبين له الحق ، وأن بعض هذه الأدلة كان يكفي لإثبات التحريم .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة