أنا أذنب ذنوبا يشيب لها الرأس ، والله إني أشعر بالهم لدرجة أقول أنا أتوب كثيراً ، ماذا أفعل ؟ وكيف التوبة والثبات ؟ هل يمكن أن أكون من الخطائين التوابين ، مع العلم أن ذنوبي كبيرة ؟
ذنوبه كبيرة ، وكثيرة ، فهل يمكن أن يكون من الخطائين التوابين ؟
السؤال: 223556
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
تجب التوبة إلى الله تعالى من الذنوب جميعا ، قال عز وجل : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور/31 .
وقال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الحجرات / 11 .
قال ابن القيم رحمه الله :
” قسّم العباد إلى تائب وظالم ، وما ثم قسم ثالث ألبتة ، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ، ولا أظلم منه ؛ لجهله بربه وبحقه ، وبعيب نفسه ، وآفات أعماله ” .
انتهى من ” مدارج السالكين” (1 /178) .
ثانيا :
ليس هناك ذنب ، الشرك فما دونه من الذنوب والخطايا والموبقات ، ليس من هذا كله شيء أعظم من مغفرة الله ، ورحمته ، وعفوه ؛ فقط كل ما هنالك أن ينيب العبد إلى ربه ، ويقبل إليه بقلبه ، ويصحح توبته من الذنوب والخطايا ؛ قال الله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الزمر/53-55 .
عن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( … يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي : غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي !!
يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا : لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ) رواه الترمذي (3540) ، وحسنه ، وصححه الألباني في “صحيح الترمذي” .
قال ابن القيم رحمه الله :
” وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت ولا يبالى، فيبطلها ويبطل آثارها ، بأدنى سعى من العبد وتوبة نصوح وندم علي ما فعل ، وما ذاك إلا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده ” انتهى من “الفوائد” (ص 126) .
فالتوبة تجب ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب عليه .
ثالثا :
الواجب على المسلم ألا يصر على فعل الذنوب ، فإن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة ، وقد قال تعالى في وصف عباده المتقين :
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) آل عمران/ 135 .
قال ابن كثير رحمه الله :
” قَوْلُهُ (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَيْ تَابُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى اللَّهِ عَنْ قَرِيبٍ ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَيُصِرُّوا عَلَيْهَا غَيْرَ مُقْلِعِينَ عَنْهَا، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الذَّنْبُ تَابُوا عَنْهُ ” انتهى من ” تفسير ابن كثير” (2/ 109) .
قال النووي رحمه الله :
” لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَتَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَسَقَطَتْ ذُنُوبُهُ ، وَلَوْ تَابَ عَنِ الْجَمِيعِ تَوْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ جَمِيعِهَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ ” .
انتهى ” شرح النووي على مسلم ” (17/ 75) .
خامسا :
من علامات إيمان العبد أن تسره حسنته ، وتسوؤه سيئته .
روى أحمد (144) عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ ) وصححه محققو المسند .
فمحبة العبد للتوبة ، ورغبته في الاستقامة ، وبغضه للذنب الذي يفعله ، وشعوره بالهم والغم بارتكابه : من علامات صحة الإيمان ، ومن تصحيح التوبة والرجوع إلى الله .
وقد روى البخاري (6308) عن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : ” إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا ” .
سادسا:
الخوف الحقيقي من الله ، هو ما حجز عن محارم الله ، وأول التوبة عدم الإصرار على الذنب .
قال ابن القيم رحمه الله :
” الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ : مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: صِدْقُ الْخَوْفِ هُوَ الْوَرَعُ عَنِ الْآثَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ” انتهى من “مدارج السالكين” (1/ 510) .
فطريق التوبة : الاستقامة على طاعة الله ، وترك معصيته ، وعدم الإصرار على فعل الذنب ، وخير الخطائين التوابون ، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فلا يكفي اعتراف العبد بالذنب مع تماديه فيه ، حتى يتوب إلى ربه ، ويسعى جاهدا في ذلك ، ويكثر من العمل الصالح ، فإن الحسنات يذهبن السيئات .
وعلى ذلك يفهم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه الترمذي (2499) وحسنه الألباني .
قال القاري في “المرقاة” (4/ 1622):
” أَيِ: الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ ، أَوْ بِالْإِنَابَةِ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ ” انتهى .
وقال السندي في “حاشيته على ابن ماجة” (2/ 562):
” أَيْ: دُونَ الْمُصِرِّينَ ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً ؛ فَكَيْفَ عَلَى الْكَبِيرَةِ ؟ ” انتهى .
فالمصر على الذنوب ، المكثر منها ، ليس من التوابين في شيء ، بل هو من “الخطائين” فقط ، فليحذر العبد ما عند الله من غضب وعقاب ، أن يحل به ، قبل أن يبادر بتوبته ، أو يأتيه أجله .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (46683) ، (23491) .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة