بالنسبة للصلاة الفائتة في الصغر، لقد قرأت فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكمها واطلعت على أدلته وهي خمسة على ما أظن، وهو يرى بعدم قضاء الفوائت، وهي أدلة قوية جدًا.
بالمقابل قول الجمهور بالقضاء، حتى وإن أراد العبد قضاء ما فاته ما دام حيا، لا تعضده أدلة قوية أطمئن إليها وأباشر القضاء.
1. هناك من المشايخ الفضلاء من يقول بأنه حتى وإن قضيت الصلاة المتروكة فإنها لا تنفع صاحبها البتة، لأن لها وقتا معينا، وقد ذهب وقتها إلى الأبد. فلماذا -إن كنتم ترون ذلك- أنشغل بعبادة هي مردودة علي ولا تنفعني ؟
2. أحيانًا لما أتذكر أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإذا صلحت صلح العمل كله، وإذا فسدت فسد العمل كله، أرتعد من هول الأمر، فأقول ماذا لو قابلت ربي بصلاة ناقصة (إن أخذت بالقول الأول)، وأقول في نفسي : إن الله قد يسألني لماذا لم تأخذ بقول الجمهور، فهل تبرأ ذمتي إن أخذت بالقول بعدم القضاء ؟
3. ورد في الحديث أن الله عز وجل يقول لملائكته -وهو أعلم بملائكته وبعباده-: ” انظروا هل لعبدي من تطوع “..
هل ينطبق هذا الحديث على من لم يتب ويحافظ على صلاته ، أم أن الجميع في ذلك سواء ؟
وهل التطوع هنا يسد الصلوات المتروكة أم الصلوات الغير مؤداة على الوجه اللازم (يعني التي ينقصها خشوع أو فيها نسيان أركان أو كذا..) ؟
وهل يدل هذا الحديث على وجوب لزوم من لديه فوائت قلت أم كثرت النوافل ؟
ماذا إن اقتصر العبد على السنن الرواتب وصلاة الضحى والوتر وركعات في الليل ما استطاع إلى ذلك سبيلا ؟
كيف نعرف أن التطوع يسد الفراغ المتروك، أم أنه علينا إحسان الظن بالله وحسب ؟
مسائل متعددة حول ترك الصلاة ، وقضاء الفوائت
السؤال: 223580
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تارك الصلاة عمدا يلزمه قضاء ما فاته منها ، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم وجوب قضائها عليه ، وإنما تكفيه التوبة وإحسان العمل في المستقبل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” مَنْ فَوَّتَ صَلَاةً وَاحِدَةً عَمْدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً عَظِيمَةً، فَلْيَسْتَدْرِكْ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ تَوْبَةٍ وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ. وَلَوْ قَضَاهَا لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ الْقَضَاءِ رَافِعًا إِثْمَ مَا فَعَلَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْقَضَاءُ، يَقُولُونَ: نَأْمُرُهُ بِأَضْعَافِ الْقَضَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَإِذَا قَالُوا: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَةٌ، كَمَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ. وَالرَّحْمَةُ وَالتَّخْفِيفُ تَكُونُ لِلْمَعْذُورِ وَالْعَاجِزِ، لَا تَكُونُ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ الْمُتَعَمِّدِينَ لَهَا، الْمُفَرِّطِينَ فِي عَمُودِ الْإِسْلَامِ ” انتهى .
“منهاج السنة النبوية” (5/ 231) .
وينظر : “الموسوعة الفقهية” (34/26-27).
ثانيا :
الراجح من أقوال أهل العلم: أن من ترك صلاة حتى يخرج وقتها بلا عذر : فلا يجب عليه قضاؤها ، وقد تقدم بيان ذلك في عدة فتاوى. انظر الفتوى رقم (7969) و (147624) .
وإذا تاب المسلم من تضييعه للصلاة ، فإن الله تعالى يتوب عليه ، وتوبته تكون بالندم على تقصيره وتفريطه ، وبالمحافظة على الصلاة ، والعزم على عدم العودة لتركها مرة أخرى . وكلما أكثر من النوافل (الرواتب وغيرها) فهو أفضل ، ويكون ذلك من تمام توبته .
ثالثا :
الواجب على المسلم في المسائل التي اختلف فيه العلماء أن يتحرى الصواب ، ويأخذ بالراجح منها حسب ما يظهر له ، ومن فعل ذلك فقد اتقى الله ما استطاع ، ولا يكلفه الله فوق ذلك .
ولا يقال : ” قد يسألني الله : لماذا لم تأخذ بقول الجمهور ؟! ” فإن الله تعالى لا يسأل أحدا يوم القيامة : لماذا لم تأخذ بقول فلان دون قول فلان ؟ وإنما يسأله عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) القصص/ 65 .
فما دمت قد قرات أدلة الفريقين ورأيت بعضها أرجح من بعض ، فإنك تأخذ ما ترجح لديك ورأيت أنه أقرب إلى اتباع الكتاب والسنة ، حتى لو أخطأ المسلم في هذا ، وكان حكم الله في القول الآخر الذي تركه فإن الله يعفو عنه ويغفر له خطأه . قال الله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الأحزاب/ 5.
فإذا أخذت بالقول الذي ظهر لك أنه الصواب ، وأحسنت التوبة ، وأكثرت من النوافل : برئت ذمتك إن شاء الله تعالى .
رابعا :
روى الترمذي (413) عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ؟. ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ) صححه الألباني في “صحيح الترمذي” .
وفي رواية : ( انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ ؟) رواه أحمد (16614).
فقول الله عز وجل لملائكته : ( انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ ) من واسع رحمة الله ، وهو عام في كل من انتقص من فريضته شيء ، سواء أحسن التوبة في الدنيا أم لم يحسنها .
فكل من قصر في صلاته ، فإن الله برحمته يكملها له من نافلته إن كان له نوافل .
خامسا :
هذا التكميل يشمل كل نقص في الفريضة ، سواء كان نقصا في عددها أو شروطها أو واجباتها أو أركانها ، أو غير ذلك .
قَالَ الْعِرَاقِيُّ :
” يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوِّضُ عَنْهُ مِنَ التَّطَوُّعِ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عِوَضًا عَنِ الصَّلَوَاتِ المفروضة “
وقال ابن الْعَرَبِيِّ: ” يُحْتَمَلُ أَنْ يُكَمِّل لَهُ مَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا بِفَضْلِ التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ مَا نَقَصَهُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ) وَلَيْسَ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ، فَكَمَا يُكَمِّلُ فَرْضَ الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَمُّ “
انظر : “تحفة الأحوذي” (2/ 383-384).
وقال ابن رجب رحمه الله :
” اختلف الناس في معنى تكميل الفرائض من النوافل يوم القيامة:
فقالت طائفة: معنى ذلك أن من سها في صلاته عن شيء من فرائضها أو مندوباتها كمل ذلك من نوافله يوم القيامة، وأما من ترك شيئا من فرائضها أو سننها عمدا، فإنه لا يكمل له من النوافل؛ لأن نية النفل لا تنوب عن نية الفرض.
وقالت طائفة: بل الحديث على ظاهره في ترك الفرائض والسنن عمدا وغير عمد.
وحمله آخرون على العامد وغيره، وهو الأظهر – إن شاء الله تعالى ” انتهى من “فتح الباري” لابن رجب (5/ 144).
سادسا :
أفاد الحديث أن النوافل تكمل الفرائض الناقصة ، وهذا لا يعني أن النافلة صارت فريضة ، بل الحديث نفسه يدل على أنها ليست فريضة (هل لعبدي من تطوع؟) .
فالواجب على من فرط في الصلاة هو التوبة والعزم على المحافظة عليها في المستقبل ، أما صلاته النافلة فذلك من تمام التوبة وكمالها .
سابعا :
إذا قصر العبد في صلاة الفريضة ثم تاب ، وحافظ على السنن الرواتب وصلاة الضحى والوتر وركعات من الليل فقد أحسن ، وكلما زاد كان خيرا له .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، أن جعل لكل نوع من أنواع الفريضة تطوعا يشبهه، فالصلاة لها تطوع يشبهها من الصلوات، والزكاة لها تطوع يشبهها من الصدقات، والصيام له تطوع يشبهه من الصيام، وكذلك الحج. وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، ليزدادوا ثوابا وقربا إلى الله تعالى، وليرقعوا الخلل الحاصل في الفرائض، فإن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة ” انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (14/ 111).
ثامنا :
أما معرفة أن النفل قد سد النقص الذي في الفريضة فذلك لا يعلمه إلا الله ، ولكن المسلم يحسن الظن بربه ، ويجتهد في التوبة وأعمال البر ما استطاع ، ويسأل الله أن يتقبل منه ، ويكتبه في التائبين المقبولين .
وانظر للاستزادة جواب السؤال رقم :(610) .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالح الأعمال وأن يتقبل منا .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة