أشكلت علي قاعدة ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ”
فقد وجدت عند شراحها أنهم قصدوا شيئا أشبه بالقياس ( كآيات الظهار ) .
لكن أری أن مشايخنا يستخدمونها بعيدا عن هذا فيستخدمون مثلا قوله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) في مواضع النهي عن البدعة ، بينما الآية تختص بالغنائم . وقوله : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ) في أمور عامة ، بينما التهلكة المرادة في الآية هي ترك الجهاد والأمثلة في هذا كثيرة .
حول قاعدة : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )
السؤال: 224767
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نص الأصوليون والفقهاء على قاعدة هامة ، وهي أن ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ” وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل .
جاء في ” المحصول ” للرازي (3/125) :
” فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , خلافا للمزني وأبي ثور ؛ فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ ” انتهى .
لكن إن كان اللفظ العام قد ورد على سبب خاص ، فإن دلالته على خصوص السبب تكون قطعية , فلا يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ , جاء في ” المسودة في أصول الفقه ” (1/ 132) : ” إذا ثبت أنه يؤخذ بعموم اللفظ ، ولا يقصر على خصوص السبب ، فإنه لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص ، فتكون دلالته عليه قطعا ” انتهى .
وهذه القاعدة التي سألت عنها هي من القواعد المهمة , وعدم اعتبارها يؤدي إلى هدم كثير من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة , خذ مثلا قوله تعالى : ( إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فقد نزلت هذه الآية ، فيما ذكره جمع من المفسرين في فتح مكة ، عندما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ثم رده عليه .
جاء في ” تفسير ابن كثير ” (2/340) :
” ( إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان إليه ، فدفع إليه المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية : فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك ” انتهى .
فهل يقال : إن العبرة هنا بخصوص السبب ، وأنه لا يجوز الاستدلال بالآية الكريمة على أداء كل أمانة من الأمانات , وهل هذا إلا هدم واضح لنصوص الوحي المعصوم ؟ .
لكن هناك أمران ينبغي ملاحظتهما عند تطبيق هذه القاعدة :
الأول : أنه يفرق بين ورود العام على سبب خاص ، فإن ذلك لا يخصصه على الصحيح , وبين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام فإن ذلك يخصصه , وقد نبه على ذلك العلامة ابن دقيق العيد رحمه ، فيما نقله عنه تاج الدين السبكي رحمه الله ، فقال : ” يجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم , وبين ورود العام على سبب ، ولا تجري مجرى واحد , فإن مجرد ورود العام على سبب لا يخصصه ، وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على المراد ، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات . قال : فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصي , وانظر قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر ) من أي من القبيلين هو منزله عليه ” ، قلت [ أي السبكي ] : ومن النظر إلي السياق : ما في ” فروع الطلاق ” من ” الرافعي ” : أنه لو قال لزوجته : إن علمت من أختي شيئًا ، ولم تقوليه : فأنت طالق . فتنصرف إلى ما يوجب ريبة , ويوهم فاحشة ، دون ما لا يقصد العلم به كالأكل والشراب ” انتهى من ” الأشباه والنظائر ” للسبكي (2/135) .
الثاني : أن اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فيما إذا لم يكن هناك معارض , أما إذا وجد معارض ، فينبغي حمل اللفظ على خصوص السبب , وفي ذلك يقول السبكي رحمه الله تعالى في ” الأشباه والنظائر ” (2/136) : ” إذا عرفت أن الأرجح عندنا اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فلا نعتقد أن ينسحب العموم في كل ما ورد وصدر ؛ بل إنما نعمم حيث لا معارض .
وفي المعارض أمثلة : منها : حديث النهي عن قتل النساء والصبيان ، أخذ أبو حنيفة بعمومه وقال : المرأة المرتدة لا تقتل ، وخصصناه نحن بسببه = فإنه ورد في امرأة مقتولة مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فنهى إذا ذاك عن قتل النساء والصبيان = لحديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وغيره من الأدلة .
ومنها : حديث أنس رضي الله عنه : ( ليس من البر الصيام في السفر ) : ورد في رجل قد ظلل عليه من جهد ما وجد ، وقد تقدم الكلام فيه ” انتهى .
ثم اختتم السبكي رحمه الله الكلام على هذه القاعدة بتنبيه يوضح محل الوفاق ومحل الخلاف في اعتبار هذه القاعدة ، فقال ” تنبيه : قدمنا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والخلاف في ذلك : إذا لم تكن هناك قرينة تعميم ، فإن كانت فالقول بالتعميم ظاهر كل الظهور ، بل لا ينبغي أن يكون في التعميم خلاف ” انتهى من ” الأشباه والنظائر ” (2/136) .
من هنا يتضح أن استدلال أهل العلم بقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر/7 على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر , وترك ما نهى عنه في كل نهي – ومن ذلك البدعة – استدلال في محله ، ولا يتعارض هذا مع كون الآية وردت في خصوص الفيء .
وكذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة /195 على النهي عن إيراد النفس موارد الهلكة والعطب استدلال في محله ، وإن كانت التهلكة المقصود في الآية هي ترك الجهاد وعدم بذل المال في سبيل الله تعالى , وإلا فهل يقول عاقل ، فضلا عن عالم إن ترك النفقة والجهاد إلقاء بالنفس في التهلكة منهي عنه في الآية الكريمة , وأما ركوب البحر وقت هياجه مع عدم أخذ الأسباب ، أو التردي من شاهق = ليس من قبيل الإلقاء بالنفس في التهلكة ، ولا يدخل تحت عموم الآية الكريمة ؟! هذا مما لا يتصور .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب