هل يولد الطفل – سواء كان ذكرا أو أنثى – حاملاً لبعض سلوكيات أبويه ، لا شك أنه يولد على الفطرة ، ولكني أسأل عن احتمالية اكتسابه لبعض الصفات السيئة من أبويه عن طريق الجينات ، وإذا كان هذا محتملاً فما الحكم ؟ وما الأشياء التي لا بد أن يرثها المولود عن أبويه ؟ طبعاً باستثناء الملامح الجسدية ؟
هل الوراثة البيولوجية تشمل الأخلاق والصلاح والفساد ؟
السؤال: 226119
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لم يرد في النصوص الشرعية ، سواء في القرآن الكريم ، أم في السنة النبوية ، ما يدل على أن الوراثة الجينية تؤثر في أعمال الإنسان وأخلاقه وصلاحه أو فساده ، بل ورد ما يؤكد خلاف ذلك ، فهذا نبي الله نوح عليه السلام ، مات ابنه في الطوفان مع الكافرين ، ولم يكتسب وراثيا من والده القلب الصالح التقي النقي ، وهذا إبراهيم عليه السلام كان أبوه كافرا ، ولم يؤثر كفر الوالد وراثيا في ولده القلبَ الجاحدَ المستكبر .
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله :
” الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب ، وقد يختلف باختلاف استعداد الأفراد ، وما يحيط بهم من الأسباب ، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال ، ولو كان بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم ، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف العزم ، وتتبعها التوبة واجتباء الرب ، ثم لكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين ، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم ، وقد دلت الآية الآتية على أن فيهم الصالحين والطالحين ، وأيد ذلك الواقع ” انتهى من ” تفسير المنار ” (12/ 72) .
وهذا لا يعني أننا ننفي العامل الوراثي مطلقا في تأثيره على الأخلاق والأعمال ، فقد وردت في القرآن الكريم إشارات – قد تشير – إلى ( احتمال ) تأثير الوراثة في الصلاح أو الفساد ، وذلك في قول الله عز وجل : ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح/27، وقول الله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) آل عمران/33-34، وقول الله جل وعلا : ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) مريم/28.
ولكن دلالة هذه الآيات الكريمات على التأثير المباشر للعامل الوراثي فيها قدر من البعد والاحتمال ، وإن استدل بها بعض الباحثين المعاصرين ، ذلك أن لقائل أن يقول إن المقصود فيها بيان عامل ” التربية “، و” النشأة ” في صلاح الأبناء أو فسادهم ، وليس الوراثة الجينية ، فالفاجر الكافر غالبا ما يربي ولده على سيرته ، فيصدق عليه أنه ( لا يلد إلا فاجرا كفارا )، وهكذا القياس أيضا في دلالة الآيات الأخريات .
وأيضا فالقرآن الكريم يقرر قواعد العدالة المطلقة في تحميل الخلق مسؤولياتهم الدينية والأخلاقية، كقوله عز وجل : ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) الأنعام/164، فإذا كان العامل الوراثي هو الدافع والموجه للأبناء من جهة الصلاح والفساد ، والكفر والإيمان ، فإن ذلك يعني أن الولد أخذ بجريرة أبيه ، وأن وزر الأصول ينتقل إلى الفروع ، وهذا أمر منفي نفيا قاطعا في أصول الدين وقواعد الشرع .
ولعل السبب في جزم بعض الباحثين بتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته اختلاط مفاهيم الأخلاق ، وأعمال القلوب ، بالطباع النفسية والعقلية ، إذ لا ينكر تأثير الوراثة في تشابه حدة الطبع أو السهولة والليونة أو النشاط والخمول ، ونحوها من الطباع المرتبطة بعوامل فسيولوجية وأسباب بدنية ، وهذا ما تتحدث عنه كتب علوم النفس والوراثة الحديثة ، كما في كتاب ” سيكولوجية النمو والارتقاء ” عبد الفتاح دويدار، ص81 .
ولكن هذا الأمر لا ينسحب على الباعث النفسي والروحي الذي يقرر اختيار الصلاح أو الفساد ، وينتقي الأخلاق الفاضلة أو الأخلاق الرديئة ، فهذا ” الباعث “، أو ” الهم ” لا بد أن يكون في أساسه حرا ؛ لأنه سر التكليف الذي أناط الحساب ببني البشر ، وجعلهم مسؤولين محاسبين على أعمالهم في الدنيا والآخرة .
ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله – عن الطفل -:
” قلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، ساذجة ، خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش ، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ” انتهى من ” إحياء علوم الدين ” (3/ 72) .
وهو ما يشير إليه أيضا الحديث النبوي المشهور : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ) رواه البخاري (6599) ، ومسلم (2658) .
وعلى كل حال ، فسؤال السائل في نفسه قضية إشكالية أخلاقية فلسفية من قديم الزمان ، خاض فيها الفلاسفة الأقدمون والمعاصرون ، وبحثها الدارسون في التخصصات النفسية والتربوية والإنسانية والطبية .
وما يهمنا هنا تأكيد الثابت في الشريعة الإسلامية : أن الإنسان حر في اختياراته ، وأنه يولد على الفطرة ، وأن العدالة الإلهية قامت بمحاسبة كل نفس على ما اكتسبت ، وبحسب الاستعدادات العلمية والعملية التي وهبها الله لها ، وأن احتمال التأثير الوراثي – إن وجد – فلن يكون على الوجه الذي يناقض هذه الثوابت ، وسيكون بقدر محدود تخفف من وطأته أسباب الهداية التي هيأها الله عز وجل للإنسان ، وضمن هذا الإطار كله يمكننا فهم عبارة الراغب الأصفهاني (ت502هـ) حيث يقول : ” وذلك أن الإنسان ( قد ) يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما ، كما يرث مشابهتَهُما في خلقهما ، ولهذا قال الله تعالى : ( وكان أبوهما صالحا ) . وعلى نحوه روي أنه قال في التوراة : إِني إذا رضيتُ باركتُ ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع ، وإذا سَخِطْتُ لعنتُ ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع ، تنبيهاً على أن الخير والشر الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثره موروثاً إلى البطن السابع ” .
انتهى من ” تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ” (ص: 55) ؟
فتأمل استعماله كلمة ( قد ) التي جعلناها بين قوسين كي تتنبه إلى أن الأمر لا يتعدى دائرة الاحتمال والتشكيك والتقليل .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب