إذا كان علي دين لفلان باليورو ، وعليه دين لي بالريال ، فهل يجوز أن أطرح قيمة الدين الأول من الثاني ، بالنظر إلى عملة اليوم، ثم أسدد له الباقي ؟
جزاكم الله خيرا.
حكم المقاصة بين الديون مع اختلاف العملة.
السؤال: 226430
ملخص الجواب
والخلاصة : أنه لا حرج عليكما في الاتفاق على إسقاط الدين الذي عليك ، مقابل الدين الذي عليه ، بحسب سعر الصرف في اليوم الذي تتفقان فيه على المقاصة ، وإذا بقي شيء من المبلغ فيبقى في ذمة الآخر بحسب العملة التي ثبت بها الدين أولاً . والله أعلم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الاتفاق بين المتداينين على إسقاط كل واحدهما منهما دينه مقابل الدين الثابت في ذمة الآخر: يعرف عند الفقهاء باسم ” المقاصَّة “.
قال ابن جزي: “الْمُقَاصَّة فِي الدُّيُون ، وَهِي اقتطاع دينٍ من دين” انتهى من ” القوانين الفقهية” (ص: 192) .
وفي “الموسوعة الفقهية” (38/329) : ” فَالْمُقَاصَّةُ : إِسْقَاطُ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ لِشَخْصٍ عَلَى غَرِيمِهِ، فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لِغَرِيمِهِ ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مِنْ طُرُقِ قَضَاءِ الدُّيُونِ”. انتهى
فإذا كان الدينان متماثلين من كل الوجوه (الجنس ، والقدر ، والأجل ) ، فإنهما يتساقطان تلقائياً ، دون اختيار من صاحب الدين .
وإذا اتفقا في جنس المال ، واختلفا في قدره ، أو أجله ، فتجوز المقاصة ، أيضا ، بتراضي الطرفين على ذلك .
جاء في “الموسوعة الفقهية” (32/264): ” إذَا انْشَغَلَتْ ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْل مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الأْدَاءِ : بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ ، مُقَابَلَةً بِالْمِثْل ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَقَابُضٍ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، لأِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا.
فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ، سَقَطَ مِنَ الأْكْثَرِ بِقَدْرِ الأْقَل، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلآْخَرِ بِمَا زَادَ”. انتهى
وينظر : “المقاصة بين الديون النقدية” ، د. عبد الله الديرشوي ، ص (7) وما بعدها .
ثانياً :
إذا اختلف الدينان في جنس المال : ، كأن كان أحد الدينين ذهبا والآخر فضة ، أو أحدهما بالدولار ، والأخر بالريال ، فاختلف العلماء في حكم المقاصة في هذه الحال:
فذهب الشافعية والحنابلة إلى المنع منها ؛ لأنه مصارفةٌ بما في الذمة ، وهي داخلة في باب النهي عن بيع الدين بالدين .
قال الإمام الشافعي : ” مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ لِرَجُلٍ ، وَلِلرَّجُلِ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ ، فَحَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ ، فَتَطَارَحَاهَا صَرْفًا : فَلاَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ بِدَيْنٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى : إذَا حَلَّ فَجَائِزٌ , وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ فَلاَ يَجُوزُ” . انتهى من “الأم” (4/60).
وقال المرداوي : ” ” لَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَتَصَارفا ، وَلَمْ يَحْضُرَا شَيْئًا: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ كَانَا حَالَيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ ،ـ نَصَّ عَلَيْهِ [الإمام أحمد] فِيمَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ”. انتهى من “الإنصاف” (5/ 44) .
وذهب المالكية إلى جواز هذه المقاصة ، بشرط أن يكون الدنيان حالين لا أجل فيهما ، أما إذا كان أحدهما ، أو كلاهما مؤجلا : فلا يجوز .
قال ابن جزي : ” فَإِن كَانَ أَحدهمَا ذَهَبا وَالْآخر فضَّة : جَازَت الْمُقَاصَّة إِن كَانَا قد حلا مَعًا ، وَلم يجز إِن لم يحلا ، أَو حل أَحدهمَا دون الآخر ؛ لِأَنَّهُ صرف مستأخر”. انتهى من “القوانين الفقهية” (ص: 193).
وذهب الحنفية إلى جواز هذه الصورة من المقاصة ؛ ” فيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّقَابُضِ الْحَقِيقِيِّ ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ التَّقَابُضِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّقَابُضِ الْحِسِّيِّ ، ولأِنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ ، كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ “. انتهى بتصرف من “الموسوعة الفقهية” (32/264).
قال ابن نُجيم الحنفي : ” وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَتَقَاصَّا ، كَأَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَلِلْمَدْيُونِ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَيْهِ ، فَإِذَا تَقَاصَّا تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ ، مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ ، مَا بَقِيَ مِنْهَا “. انتهى من “البحر الرائق” (6/217) .
قال ابن عبد البر: ” وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ حَدِيثُ .. ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدَّنَانِيرَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ).
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّرْفِ ، إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا ، قَالُوا : فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَا دَيْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ ، وَصَارَ الطَّرْحُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ، كَالْمَقْبُوضِ مِنَ الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ ، وَمَعْنَى الْغَائِبِ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ وَلَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ حَتَّى يَفْتَرِقَا “. انتهى من ” التمهيد ” (16/ 8) .
وقال ابن رشد ملخصاً الخلاف في المسألة : ” واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير، وللآخر عليه دراهم، هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟
فقال مالك: ذلك جائز إذا كانا قد حلا معا.
وقال أبو حنيفة: يجوز في الحالِّ وفي غير الحالِّ.
وقال الشافعي، والليث: لا يجوز ذلك ، حلا أو لم يحلا.
وحجة من لم يجزه: أنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز ، كان أحرى أن لا يجوز غائب بغائب.
وأما مالك: فأقام حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، وإنما اشترط أن يكونا حالين معا، لئلا يكون ذلك من بيع الدين بالدين”. انتهى من “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (3/215) .
والأقرب في هذه المسألة – والله أعلم – : هو ما ذهب إليه الحنفية من جواز المقاصة بين الدينين ، ولو كانا من جنسين مختلفين ؛ لأن هذا ليس من باب البيع ، وإنما هو من باب استيفاء كل من الدائنين حقه عند صاحبه ، وإبراء كل منهما للآخر ؛ والاستيفاء أمره أسهل وأيسر من البيع ، ولا يشترط فيه ما يشترط في عقد البيع .
بل هذا ـ في واقع الأمر ـ هو حقيقة استيفاء عامة الديون ؛ وذلك أن قبض نفس الدين : لا يتصور ، وإنما يكون قبضه بقبض بدله ؛ وهذا هي حقيقة المقاصة هنا .
وينظر : “المقاصة بين الديون النقدية” ، د. عبد الله الديرشوي ، ص (15) وما بعدها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ : فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفَائِدَتُهُ سُقُوطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ عَنْهُ ، لَا حُدُوثُ مِلْكٍ لَهُ ، فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا.
فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ ، وَهُنَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا: بَلْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ.
وَهَذَا لَوْ وَفَّاهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ : لَمْ يُقَلْ إنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ ، بَلْ يُقَالُ: وَفَّاهُ حَقَّهُ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ .
فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ : إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا ، فَكَذَلِكَ إذَا أَوْفَاهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا ، بَلْ هُوَ إيفَاءٌ ، فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ”. انتهى من “مجموع الفتاوى” (29/512) .
وقال أيضاً : ” النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ، وَهُوَ الْمُؤَخَّرُ بِالْمُؤَخَّرِ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ بَيْعِ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، يَسْقُطُ إذَا بِيعَ ، بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ .
فَإِنَّ هَذَا الثَّانِيَ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الذِّمَّتَيْنِ ، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَغَيْرِهِمَا”. انتهى من “مجموع الفتاوى” (29/472).
وقال أيضا :
ولهذا جوَّز مالك وأبو حنيفة وغيرهما بيع الدَّيْن الساقط بالساقط، إذا كان لهذا على هذا دراهم، وللآخر ذهب، فقال: أسقط هذا بهذا، فهذا يجوز في أظهر القولين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن بيع الدَّين بالدَّين، ولكن رُوي أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، مع ضعف الحديث .. ” انتهى من ” جامع المسائل – المجموعة الثامنة ” (1/ 311) .
وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي ، من أئمة الشافعية ، أيضاً .
قال تاج الدين السبكي مبيناً بعض اختيارات والده : ” وَأَن بيع النَّقْد الثَّابِت فِي الذِّمَّة ، بِنَقْد ثَابت فِي الذِّمَّة : لَا يظْهر دَلِيل مَنعه ، وجنح إِلَى جَوَازه ، كَمَا هُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة ، وَأما الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب فمتفقون على الْمَنْع وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث (نهى عَن بيع الكاليء بالكاليء).
وَنقل أَحْمد بن حَنْبَل الْإِجْمَاع على أَن لَا يُبَاع دين بدين.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام : وَجَوَابه : أَن ذَلِك فِيمَا يصير دينا ، كَمَا لَو تصارفا على موصوفين وَلم يتقابضا ، أما دينان ثابتان يقْصد طرحهما : فَلَا “. انتهى من “طبقات الشافعية” (10/231) .
وقال الشيخ ابن عثيمين : ” والصحيح أنه يصح … فيما إذا تصارفا في الذمة ؛ … لأن التقابض قبل التفرق قد حصل، فالدراهم الآن في ذمتك ، والدنانير الآن في ذمتي، وتفرقنا ، وليس بيننا شيء ؛ فالصحيح أنه يصح، وأنه ليس من باب بيع الدين بالدين”. انتهى من “الشرح الممتع” (8/460).
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب