تنزيل
0 / 0

حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ليس فيه ترك الأسباب

السؤال: 226628

قرأت الفتاوى المتعلقة بالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وتبين لي مفهومه بالإجمال ، غير أنه ما زال عندي إشكال في قضية التوكل .
فهل نحن مأمورون من خلال هذا الحديث بترك الأسباب ؟
فعلى حد علمي أن التوكل الحقيقي معناه بذل الجهد في هذه الدنيا مع وضع الثقة في الله تبارك وتعالى ، والتحلي بالصبر ، أليس كذلك ؟ أم أن في هذا الحديث استثناءً هنا ؟
قلتم في بعض الفتاوى : إن المذكورين في الحديث لا يطلبون المساعدة من أحد ، فما معنى هذا ؟ هل المعنى أنه لا ينبغي لنا توظيف الموظفين في مكاتبنا ، والاستغناء عن الخدم لصنع الطعام وعدم أخذ الاقتراض عند الحاجة ، وعدم طلب المال من الوالدين ، وعدم طلب النصح من الغير..الخ ؟
وما نوع المساعدة الجائزة والمكروهة في ضوء هذا الحديث ؟ لأننا إن توقفنا عن طلب المساعدة من الغير فستتوقف الحياة بلا شك ، إذ إن الخلق مسخرون لبعضهم ! وقد رأينا كيف أن إبراهيم عليه السلام طلب مساعدة ابنه إسماعيل عند بناء الكعبة . كما رأينا أن الصحابة فهموا الحديث على عدم طلب الرقية فحسب ، لا على كل شيء ،ـ وماذا يفعل العبد كي يكون من هؤلاء السبعين ألفاً ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

تناول الأسباب سنة من سنن الله في هذا الخلق ، تركبت من حين خلق الله عز وجل آدم من
طين لازب على هيئة جوفاء لا تتماسك ، فجُبل حينئذ على الضعف والفقر والحاجة إلى ما
حوله من مفردات الطبيعة التي هيئها الله عز وجل له ، بل وأباحها لجنسه كي تكون خطته
التي يذللها في سبيل عيشه وسيره مسارات العبودية المتنوعة .
ولكي لا يستغرق الإنسان في هذه الحياة السببية ، وتغره خدعة ” الإلف ” التي هي من
أوهام النفس البشرية ، فتركن إلى الأسباب وتنسى المسبب الخالق جل وعلا ، جاءت
رسالات الأنبياء تذكر البشر بهذه الحقيقة القديمة ، وتسلك مسارات الروح والعقل
والقلب جميعا في سبيل تعليق البشر بالخالق جل وعلا ، تحت عنوان ” التوكل “، الحالة
الأصيلة التي تغفل عنها النفس بفعل سحر ” العادة “، والمشاهدات اليومية لتأثير
الأسباب .
هذه قراءة موجزة لقضية التوكل والأخذ بالأسباب في الإسلام ، تؤيدها العشرات من
الأدلة الشرعية والنصوص القرآنية التي تأمر بالضرب في الأرض ، وطلب أسباب المعاش
فيها ، مع حسن التوكل على الله سبحانه ، كما قال جل وعلا : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) النحل/41-42. فجمع بين السبب ( الهجرة في الله
)، وبين الصبر والتوكل .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ )
الشعراء/214-217. فأمر بالتوكل بعد مجموعة من الأسباب ، تتمثل في الدعوة إلى الله ،
والتواضع ، والبراءة من الشرك .
وقال عز وجل : ( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) الملك/29، فقدَّم الإيمان ( الذي
هو العلم والعمل )، ثم أردفه بالتوكل .
وهكذا أيضا حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، لا يبعد
فهمه عن هذا الإطار الذي رسمته لنا محكمات الشريعة الإسلامية كلها ، ولا يصح
الاستدلال به على ترك الأسباب والانقطاع عن الفاعلية ، بل أول صفات عباد الرحمن
الذين يختصهم الله عز وجل هي التأثير بالخير بين الناس ، وهذا لا يتم إلا من خلال
منظومة الأسباب التي هيئها الله سبحانه في هذا الكون .
كل ذلك يختصره قوله عليه الصلاة والسلام : ( وعلى ربهم يتوكلون )، فهي حالة هؤلاء
الدائمة ، متوكلين على الله سبحانه ، والتوكل لا يتحقق حتى يجتمع إليه ركنه الأول
المهم ، الذي هو الأخذ بالأسباب ، فإن لم يتم هذا الركن انقلب التوكل إلى تواكل
وعجز وخلل في مفهوم الإيمان .
ومن هنا فقد فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يَسْترقون ) بما لا يحيد
عن هذه المعاني ، ولا يدعو إلى ترك الأسباب :
فقال بعضهم: إن المقصود ترك الرقية الشركية ، أو التي لا تعتمد الأذكار الشرعية ،
وإنما يعرفها العرب من كلامهم ، ويظنون فيها السببية ، وهي في واقع الأمر ليست سببا
ولا شفاء . فضلا عن اشتمال بعض رقى العرب على كلمات شركية أو مشتبهة .
نقل ابن بطال في ” شرح صحيح البخاري ” (9/ 405) عن أبي الحسن بن القابسي أنه قال :
” معنى ( لا يسترقون ) يريد الاسترقاء الذي كانوا يسترقونه في الجاهلية عند كهانهم
، وهو استرقاء لما ليس في كتاب الله ، ولا بأسمائه وصفاته ، وإنما هو ضرب من السحر
، فأما الاسترقاء بكتاب الله والتعوذ بأسمائه وكلماته فقد فعله الرسول وأمر به ،
ولا يخرج ذلك من التوكل على الله ، ولا يرجى في التشفي به إلا رضا الله “.
وحمل آخرون من العلماء الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها ، ولا
يفوضون الأمر إلى الله تعالى ، فمن لم يكن منهم استحق دخول الجنة بغير حساب ولا
عذاب . وهذا توجيه الطبري والمازري كما في ” المعلم بفوائد مسلم ” (1/346) .
حتى من قال من العلماء إن معنى ( لا يسترقون ) أي : لا يطلبون الرقية من غيرهم ، لم
يقيسوا الأسباب الأخرى على الرقية ، بل قالوا إن الأسباب لا يجوز التواكل في تركها
، اللهم إلا طلب الرقية ، فهو مستثنى في هذا الحديث ، كحال طلب الدعاء أيضا ؛
فالأولى بالمسلم أن لا يطلب الدعاء من غيره ، ولا يطلب الرقية من غيره ، والرقية من
جنس الدعاء ، فشملهما حكم واحد ، فيعتمد فيها على نفسه ، لأن الله عز وجل ليس بينه
وبين عباده واسطة .
وحينئذ يتبين أن الأمر يتعلق بتحقيق التوحيد في قلب العبد المسلم ، وليس بترك
الأسباب ، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله – كما في ” جامع المسائل – المجموعة
الثامنة ” (1/ 120)-: ” ذكر سبحانه الراقي دون الطبيب الذي يسقي الدواء ونحوه ؛ لأن
تعلق النفوس بالرُّقَى أعظم ، ولهذا قال في صفة المتوكلين : ( هم الذين لا يسترقون
ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ) “.
وهذا هو توجيه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، أيضا ، كما في ” لقاء الباب المفتوح ”
(55/ 17، بترقيم الشاملة آليا) .
وكذلك حال العلماء الذين قالوا : إنه يستحب عدم سؤال الناس شيئا ، لم يريدوا بذلك
ترك الأسباب بالكلية والتواكل ، وإنما أرادوا ذم المبالغة في التعلق بالناس ، إلى
حد الغلو في الاعتماد عليهم ، حتى تضعف الثقة بالله سبحانه ، بل وتضعف الثقة بالنفس
، ليصير كل شيء مرتبطا بالخلق ، فتعيش النفس ضعيفة أسيرة لمن هو أقوى وأغنى ممن
حولها من الناس ، وهذا أمر لا يختلف العقلاء في ذمه والتنفير عنه ، حتى من غير
المسلمين ، فالبرامج التنموية كلها تسعى في خلق جيل واثق بنفسه ، مستند إلى قدراته
، وليس عالة على غيره ، وفي الوقت نفسه يحسن إدارة الأسباب ، ويتقن الأخذ بها على
الوجه المتكامل مع ثقته بنفسه . ونحن المسلمين نقول : وقبل ذلك كله وبعده : حسن
التوكل على الله سبحانه .
ولا ننكر وقوع الفهم الخاطئ لهذا الحديث لبعض المتقدمين ، حتى استدل به الكلاباذي
(ت380هـ) في ” التعرف لأهل التصوف ” (ص/24) على ترك الأسباب ، قائلا : ” فلم يرجعوا
إلى الأسباب ، ثقة بالله عز وجل ، وتوكلا عليه ورضا بقضائه “.
ولكن ما سبق جميعه يبين بطلان هذا الاستدلال ، ويوضح الوجه الصحيح لفهم الحديث ،
الذي يتسق مع أدلة الشريعة كلها .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
” عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده ، عالما بأنه لا يقدر على جلب
نفعي ودفع ضري سواه ، ثم قمت أتعرض بالأسباب ، فأنكر عليَّ يقيني ، وقال : هذا قدح
في التوكل!
فقلت : ليس كذلك ، فإن الله تعالى وضعها من الحِكَم .
وكان معنى حالي : أن ما وضعتَ لا يفيد ، وأن وجوده كالعدم .
وما زالت الأسباب في الشرع ، كقوله تعالى : ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ
أَسْلِحَتَهُمْ ) النساء/102 .
وقال تعالى : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) يوسف/47
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وشاور طبِيبَين ، ولما خرج إلى
الطائف لم يقدر على دخول مكة حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال : أَدخُلُ في جوارك .
وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلا بلا سبب .
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب ، كان إعراضي عن الأسباب دفعا للحكمة .
فإذا لم أشرب ما يوافقني ، ثم قلت : اللهم عافني . قالت لي الحكمة : أما سمعت : (
اعقلها وتوكل ) [رواه الترمذي (2517) ، وحسنه الألباني في ” صحيح الترمذي ” ]
اشرب ، وقل : عافِني ، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب ، تكاسل أن
يرفعه بيده ، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء ، وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على
التجريد ، وإنما سافر على التجريد لأنه يجرب ربه عز وجل ، هل يرزقه أو لا ، وقد
تقدم الأمر إليه: ( وَتَزَوَّدُوا ) البقرة/197 ، فقال : لا أتزود . فهذا هالك ،
قبل أن يهلكه .
فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية ، وظنوا أن كمال
الدين بالخروج عن الطباع والمخالفة للأوضاع ، ولولا قوة العلم والرسوخ فيه لما قدرت
على شرح هذا ، ولا عرفته ، فافهم ما أشرت إليه ، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها ،
وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو ” انتهى من ” صيد الخاطر ” (ص86) .
وللمزيد ينظر : (21368) ، (139092) ، (217325)
.
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android