0 / 0
85,23903/05/2015

إذا كانت الأرض كروية فلماذا ليس ثمة إلا اتجاه واحد للقبلة ؟

السؤال: 226791

هناك سؤال يحيرني منذ مدة ، إذا كانت الأرض مدورة فلماذا إذن ليس هناك إلا اتجاه واحد للقبلة ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

المطلوب في التوجه للكعبة المشرفة هو التوجه لجهتها، كما قال تعالى : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) البقرة/144.
وشطر المسجد الحرام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : نحوه . وقال البراء : قبله ، وقال ابن زيد : ناحيته وجانبه ، وقال أبو العالية : تلقاءه . ينظر ” جامع البيان ” للطبري (3/176-177) .
فالمقصود هو الجهة والناحية ، ومعلوم عند أهل الأرض كلهم ، وفي علوم الناس والحضارات والشعوب قديمها وحديثها ، وفي قسمة العقل السليم ، أن الأرض وجميع الأفلاك لها جهات أربعة لا تنفك عنها ، هي الشمال والجنوب والشرق والغرب ، وذلك بالنسبة لمحور الأرض الذي تدور حوله من اليمين إلى الشمال ، وبالنسبة للقطبية الذاتية التي أودعها الله عز وجل هذه الأرض بحيث تتجه جميع البوصلات إلى الشمال والجنوب من أي مكان في الأرض . فهي جهات ذاتية ، لا تتفاوت بالنسبة للأرض نفسها ، مهما تفاوتت بحسب اختلاف الإضافة .
ولهذا فكروية الأرض لا تلغي هذه الجهات الأربعة ، بدعوى أن الغرب يؤدي إلى الشرق بالاستدارة ، وأن الشمال يؤدي إلى الجنوب كذلك .
ومن هنا تعلم أن من كان في شمال الأرض الذاتي ، فإن اتجاه القبلة له هو الجنوب ، ومن كان في الجنوب الذاتي للأرض فإن اتجاه القبلة له هو الشمال ، ومن كان في مشرق الأرض الذاتي اتجه للقبلة غربا ، ومن كان في مغرب الأرض الذاتي اتجه للقبلة شرقا ، هذا هو الاتجاه القبلي المأمور به شرعا .
والقضية لا تتعلق بالقبلة فحسب ، بل بجميع مدن الأرض والنسب بين الاتجاهات ؛ لذلك لا تسمع من يقول إن القارة الأوروبية تقع في جنوب القارة الإفريقية ، لأن من اتجه من إفريقيا إلى الجنوب ، استدار مع كروية الأرض حتى يصل أوروبا !
ولا تسمع عالما أيضا من أهل بلاد الهند مثلا ، إذا سئل عن جهة القارة الأمريكية ، أشار إلى جهة المشرق ، بل يشير إلى جهة المغرب ، وإن كان يمكنه الوصول إليها عبر التوجه إلى أقصى الشرق مع كروية الأرض ، ولكن سؤال الجهة شيء ، وطريق البلوغ والوصول شيء آخر.
فالجهة المقصودة في عرف عامة الناس ، وفي عرف الشريعة أيضا : هي الجهة الثابتة للكرة الأرضية ككل ، الشمال والجنوب والشرق والغرب ، وهي الجهة التي تشير إليها البوصلة المغناطيسية الثابتة في كل مكان ، جهة ذاتية ثابتة للأرض لا تتغير .
والمطلوب في شريعتنا هو جهة القبلة ، من هذا العرف الثابت ، وليس الوصول إليها بأي طريق كانت . فالفرق ظاهر بين الأمرين .
ولهذا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن استقبال القبلة بالبول أو الغائط ، نهاهم أيضا عن ” استدبارها “، أي تولية القبلة الدبر ، فسماه استدبارا ، رغم أن الاستدبار – بحسب السائل – مع كروية الأرض ، يؤول إلى استقبال القبلة أيضا ، ولكن لما كان المعتبر في القبلة هو الجهات الذاتية للأرض كما سبق بيانه ، سماه النبي صلى الله عليه وسلم استدبارا ، ونهى عنه .
يقول عليه الصلاة والسلام : ( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الغَائِطَ ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا ) رواه البخاري (144) ، ومسلم (264) .
ولهذا أيضا لما نزل الأمر بالتوجه للكعبة المشرفة ، وكان المسلمون يتوجهون إلى بيت المقدس ، انحرفوا عن توجههم إلى الشام ، رغم كونه وجهة صحيحة على مبدأ السائل ، لأن أهل المدينة إذا توجهوا شمالا إلى الشام وما بعدها ، وساروا مع كروية الأرض بلغوا مكة والقبلة ، ولكن هذا التوجه لم تعتبره الشريعة ؛ لأنه لا يستند إلى جهات الأرض الذاتية التي سبق وصفها وتقريرها .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : ” بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا ، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ ” رواه مسلم (526) .

ولو وقف أحد المسلمين عند الكعبة المشرفة فولى أحد أركانها ظهره ، وصلى ، فإن صلاته باطلة باتفاق علماء الإسلام ، لأنه استدبر القبلة قطعا ، ولم يستقبلها ، لأن الاستقبال والاستدبار بني على أساس جهات الأرض الذاتية .
ولو قيل بتعريف الاستقبال والاستدبار الوارد في السؤال، وأنه بحسب طريق الوصول إلى الكعبة ، بغض النظر عن اتجاهات الأرض ، لصحت صلاة هذا المصلي مستدبرا الكعبة ، وهذا ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام ، رغم اتفاقهم قديما وحديثا على كروية الأرض ، ورغم دلالة الأدلة الشرعية الصريحة أيضا على كروية الأرض .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة ، قال الله تعالى : ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون )، وقال تعالى : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ). قال ابن عباس : في فلكة مثل فلكة المغزل .
وهكذا هو في لسان العرب الفلك : الشيء المستدير . قال تعالى : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) والتكوير هو التدوير .
وأما إجماع العلماء : فقال إياس بن معاوية – الإمام المشهور قاضي البصرة من التابعين -: السماء على الأرض مثل القبة .
وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي – من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد -: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب ، كدورة الكرة ، على قطبين ثابتين غير متحركين : أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب.
قال : وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .
قال : ويدل عليه : أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب .
قال : فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء ، كالنقطة في الدائرة .
وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة ، وأن الله على عرشه ، مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة ، متناقض ، أو مقتض أن يكون الله تحت بعض خلقه ، كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة الأفلاك ، وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل .
وهذا من غلطهم في تصور الأمر .
ومن علم أن الأفلاك مستديرة ، وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين ، وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه وهو قعر الأرض هو ” سجين ” ” وأسفل سافلين “، علم من مقابلة الله بين أعلى عليين ، وبين سجين … أن السماء فوق الأرض مطلقا ، لا يتصور أن تكون تحتها قط ، وإن كانت مستديرة محيطة.
وعلم أن الجهة قسمان : قسم ذاتي . وهو العلو والسفول فقط .
وقسم إضافي : وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته ، فما أمامه يقال له : أمام ، وما خلفه يقال له خلف ، وما عن يمينه يقال له اليمين ، وما عن يسرته يقال له اليسار ، وما فوق رأسه يقال له فوق ، وما تحت قدميه يقال له تحت ، وذلك أمر إضافي .
أرأيت لو أن رجلا علق رجليه إلى السماء ورأسه إلى الأرض أليست السماء فوقه ، وإن قابلها برجليه ، وكذلك النملة أو غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه وظهره إلى الأرض لكان العلو محاذيا لرجليه وإن كان فوقه ، وأسفل سافلين ينتهي إلى جوف الأرض . والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذيا لرؤوسنا ، وبعضها في النصف الآخر من الفلك ، فليس شيء منها تحت شيء ، بل كلها فوقنا في السماء ، ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الإضافي كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه ، وخيل على من لا يدري أن من قال : إن الله فوق العرش فقد جعله تحت نصف المخلوقات ، أو جعله فلكا آخر ، تعالى الله عما يقول الجاهل” انتهى باختصار من ” مجموع الفتاوى ” (25/193-197) .
والشاهد هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية تقريره أمرين مهمين :
الأول : استدارة الأفلاك ، واتفاق العلماء على ذلك من قديم الزمان .
الثاني : إثبات أن الجهة الذاتية للأرض هي الجهة التي يرد عليها الخطاب الشرعي في تقرير صفة العلو لله سبحانه وتعالى ، وليست الجهة الإضافية لكل مخلوق على حدة . وهذا هو المبدأ ذاته الذي ينبغي أن يعتمد في اتجاه القبلة ، فالواقع في شمال الكرة الأرضية لا بد أن يتجه جنوبا ؛ لأن القبلة ( الذاتية ) للأرض هي الجنوب لمن هو في الشمال الأرضي .
وبهذا يتبين أن جهة القبلة هي جهة واحدة وهي الجهة الذاتية للأرض .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android