هل كل بدعة أشد وأغلظ من كل كبيرة ، أم أن هذا الكلام فيه تفصيل وليس على إطلاقه
؟
لأنه وجد من استغل هذه القاعدة لتبرير مجالسة عوام الناس مع الفساق ، وقال : خير لهم من مجالسة أهل البدع ، ويستدل بآثار من السلف .
هل كل بدعة أشد وأغلظ من كل كبيرة ؟
السؤال: 237360
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن : ( كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) رواه مسلم (867) ، والنسائي (1578) .
وقد بيّن أهل العلم أن البدعة وإن كانت كلها ضلال فإنها معصية من المعاصي ، والمعاصي تختلف درجاتها بالنظر إلى مدى مخالفتها للشرع .
قال الشاطبي رحمه الله تعالى :
” ورد النهي عنها على وجه واحد ، ونسبة إلى الضلالة واحدة ؛ في قوله : ( إياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، وهذا عام في كل بدعة .
فيقع السؤال : هل لها حكم واحد أم لا ؟
فنقول : ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة ، يخرج عنها الثلاثة [ يعني : الوجوب ، والندب ، والإباحة ] ، فيبقى حكم الكراهية ، وحكم التحريم، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين؛ فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة .
وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات؛ والمنهيات لا تعدو الكراهة أو التحريم ، فالبدع كذلك . هذا وجه .
ووجه ثان : أن البدع إذا تؤمل معقولها ، وُجِدتْ رتبها متفاوتة .
فمنها ما هو كفر صراح …
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر ، أو يختلف : هل هي كفر أم لا !
كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ، ومن أشبههم من الفرق الضالة .
ومنها ما هو معصية ، ويُتفق على أنها ليست بكفر ؛ كبدعة التبتل ، والصيام قائما في الشمس ، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع .
ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال ، وقراءة القرآن بالإدارة ، والاجتماع للدعاء عشية عرفة … وما أشبه ذلك … ” انتهى من ” الاعتصام ” (2 / 353 – 355) .
وقال رحمه الله تعالى :
” وإذا ثبت أن المبتدع آثم ، فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة ، واختلافها يقع من جهات ، بحسب النظر الفقهي .
فيختلف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد فيها ، أو مقلدا .
أو من جهة وقوعها في الضروريات ، أو الحاجيات ، أو التحسينيات .
وكل مرتبة منها لها في نفسها مراتب .
ومن جهة كون صاحبها مستترا بها ، أو معلنا .
ومن جهة كونه داعيا لها ، أو غير داع لها .
ومن جهة كونه ـ مع الدعاء إليها ـ خارجا على غيره أو غير خارج .
ومن جهة كون البدعة حقيقية ، أو إضافية .
ومن جهة كونها بيّنة أو مشكلة .
ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر .
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه .
إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم ، وعدمه ، أو يغلب على الظن ” انتهى من ” الإعتصام ” (1 / 286) .
فالحاصل ؛ أن البدع كلها ضلال وصاحبها متوعد بالنار وصغيرها قد يجر إلى كبيرها ، هذا من حيث العموم .
ولا يشك من له علم بالشريعة ، وأحوال الفرق : أن بدعة الرفض المحض ، أو التجهم المحض ، أو نحو ذلك : هي شر من جرائم أصحاب الذنوب ، كشرب الخمر ، ونحو ذلك .
كما لا يشك من له عقل ودين : أن كبائر الإثم ، كالزنا ، والسرقة ، ونحو ذلك : شر من كثير من بدع الأعمال ، كالاحتفال بالمولد ، أو الذكر الجماعي ، ونحو ذلك ، ومن الغاية في الرقاعة ، والنطاعة أيضا : أن يظن الظان أن مثل هذه البدع الصغار ، هي شر عند الله ، وأعظم في ميزان الشرع ، مما ذكرنا من المعاصي والفواحش .
ثانيا :
هجر المبتدع هو صورة من صور النهي عن المنكر ، فيراعى فيه شروطه ؛ لأن المقصود منه إصلاح المجتمع ، فيجب أن يكون على السبيل الذي يحقق هذه النتيجة ، فإذا كان يؤدي إلى زيادة الفساد ، أو لا يوصل إلى الإصلاح المنشود ، بل يزيد الشر ، فلا يشرع في هذه الحالة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
” فالهجران : قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد .
وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله ؛ فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان والسنة ونحو ذلك.
فإذا لم يكن في هجرانه : انزجار أحد ، ولا انتهاء أحد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها : لم تكن هجرة مأمورا بها .
كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية. فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم. فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس. ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.
وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها.
فإن أقواما جعلوا ذلك عاما ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ، فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره ، أو وقعوا فيها ، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها ، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا ، فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه ، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه ، والجافي عنه . والله سبحانه أعلم ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (28 / 212 – 213) .
فإذا كان المبتدع مجاهرا ببدعته ، ساعيا في نشرها ، وهو عليم اللسان قادر على الإقناع ، أو كان في بيئة يغلب عليها أهل السنة بحيث يتضرر بالهجر ، ويردعه ؛ فلا شك أن الهجر في هذه الحالة مشروع .
وأما إذا كان هذا المبتدع ساكتا عن بدعته ، أو إنسانا عاميّا ، أو كان يعيش في بيئة يكثر فيها أهل البدع والفسوق ، فإذا هُجِر من أهل التقوى ، سكن إلى أهل البدع والفجور ، فيزداد غيا ، ففي هذه الحالة من المصلحة عدم هجرانه ؛ لأنه لا ضرر من مخالطته ، وهناك مفسدة راجحة في هجره .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
” وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين ، في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم ، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله :
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة ، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته : كان مشروعا .
وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك ، بل يزيد الشر ، والهاجر ضعيف ، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته ، لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر ، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (28 / 206) .
رابعا :
مجالسة الفساق بحجة أنهم أقل شرا من المبتدعة ، هذا التصرف غير صحيح ، للأمور الآتية:
الأمر الأول :
أن من أشهر الأدلة على مشروعية هجر المبتدع : هجر النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أهل المعاصي ، حتى عدّ هجر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك لتخلفه عن غزوة تبوك ، أصلا لمشروعية الهجر.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى :
” وقد جعل بعض أهل العلم حديث كعب هذا : أصلا في هجران أهل البدع ، ومن أحدث في الدين ” انتهى من ” الاستذكار ” (26 / 149) .
فالحاصل ؛ أن هجر العاصي مشروع كهجر المبتدع ، بل هو الأصل لأن الهجر لسبب المعصية ، والمبتدع داخل في عموم العاصي .
وعقد البخاري في صحيحه بابا بعنوان : ” بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى . وَقَالَ كَعْبٌ ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا ، وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً ) ” .
وعقد بابا آخرا بعنوان : ” بَابُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا ، وَلَمْ يَرُدَّ سَلاَمَهُ ، حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ العَاصِي. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الخَمْرِ”.
الأمر الثاني :
مجالسة الفساق ومصاحبتهم ، بحجة أن شرهم أقل من المبتدعة : لا يستقيم شرعا ، لأن الشرع أمر المسلم أن يحرص على صحبة الصالحين دون غيرهم .
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ ، فَحَامِلُ المِسْكِ : إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الكِيرِ : إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ) رواه البخاري (5534) ، ومسلم (2628) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ) رواه أبوداود (4832) ، والترمذي (2395) .
الأمر الثالث :
قول بعض أهل العلم بجواز مجالسة أهل المعصية ، لأن شرهم أقل من شر أهل البدعة
يحمل على أن يكون المقصود بأهل المعاصي هنا من لا تتعدى معصيته إلى من يجالسه .
أما إذا كان قد يلحق ضرر في الدين أو الدنيا بمجالسة الفاسق : فإنه يهجر كهجر المبتدع ، ولا فرق ؛ بل كثيرا ما يكون هجر هؤلاء الفساق الفجار : أولى وآكد من هجر أهل البدع العملية ، أو ما يختلف في بدعيته بين أهل العلم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
” قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث ، إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة ، فإن كان كذلك جاز ، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية ” انتهى من” فتح الباري ” (10 / 496) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب