أحدهم يقول : “مصليات النساء في المساجد بينهن وبين الرجال جدران وحتى النوافذ لا توجد في الغالب ، بل إن بعض المصليات للنساء خلف سرحة المسجد منعا للفتنة حسب ما يزعمون ، مع العلم أن صلاة النساء مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت في نفس المسجد خلف الرجال ولم يكن هناك جدران ولا حواجز ، ليس هناك دليل ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه بنى جدر في مسجده تصلي فيها النساء ، بل ما يحصل الآن تشدد ومبالغة ، على أن المكان مكان عبادة ، وبناء الجدر وعزل النساء بهذه الصفة فيه محاذير كثيره وخطر على النساء ؛ أولها بعدهن عن الرجال ، وانقطاع الميكرفون أو الكهرباء .
فهل من وضع هذا الامر أغْيَرُ من رسول الله عليه السلام ؟
ليكن فاصلا خفيفا ومتوسطا وقريبا من الإمام والناس ليس فيه إشكال، الإشكال أنهم جعلوا المصليات في حجرات مستقلة تحت زعم عدم الاختلاط ما هذا الفهم السقيم للعفة والتستر ، كل هذا التعنت لأجل الستر في زعمهم ، اشق على الناس في أمر لم يفعله أو يأمر به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم!! ”
كيف نرد على صاحب هذا القول السابق ؟
وتساؤل آخر : كيف تتم صلاة المرأة جماعة خلف الإمام في هذه المصليات وخاصة أنها قد تكون منفصلة تماما عن مصلى الرجال وبينهما باحة المسجد ؟ وكيف تتابعه بدون رؤيته ؟
ما حكم مصليات النساء المنفصلة عن الرجال بفاصل ؟
السؤال: 238922
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ما ذكره الكاتب من أنه لم يكن هناك حاجز بين جماعة النساء والرجال في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا صحيح .
لكن مع هذا أرشد الشرع إلى تحقيق المباعدة بين النساء والرجال في المسجد ومنع حدوث الاختلاط بينهم ، ومما يؤصل هذا :
عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ ” ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : ” فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ ” رواه البخاري (837) .
وعنها أيضا : ” أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتُوبَةِ ، قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ ” رواه البخاري (866) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
” وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين ؛ والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور ، وفيه اجتناب مواضع التهم ، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات ؛ فضلا عن البيوت ” انتهى من ” فتح الباري ” (2 / 336) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ) رواه مسلم (440) .
قال النووي رحمه الله تعالى :
” أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال … وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والله أعلم ” .
انتهى من ” شرح صحيح مسلم ” (4 / 159 – 160) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ ) ، قَالَ نَافِعٌ : ” فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ ، حَتَّى مَاتَ ” رواه أبو داود (462) تحت باب ” بَابٌ فِي اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ عَنِ الرِّجَالِ ” ، وصححه الألباني في ” صحيح سنن أبي داود ” (2 / 360) .
ومن المقرر أن هذه الأحكام إنما شرعت من باب سد ذرائع الفتنة ، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في كلامه السابق ، والذرائع تختلف قوة وضعفا من زمن إلى آخر ، ومن مجتمع إلى آخر ، ولهذا فإن طرق سدّها قد تختلف باختلاف قوة هذه الذرائع وضعفها .
ومما يشير إلى هذا قول عائشة رضي الله عنها : ” لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ” رواه البخاري (869) ، ومسلم (445) واللفظ له .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
” تشير عائشةُ رضي الله عنها إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في بعض ما يرخص فيه ، حيث لم يكن في زمنه فساد ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده ، فلو أدرك ما حدث بعده ، لما استمر على الرخصة ، بل نهى عنه ؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح ، وينهى عن الفساد .
وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر ، وعمر ، من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمار ، حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً ، أو مستترة ، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان ، ثم زال ذلك ، وظهر الفساد وانتشر ، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه ” انتهى من ” فتح الباري ” (8 / 41) .
فسلامة قلوب الصحابة رضي الله عنهم ، وقوة إيمانهم ، وخوفهم من الله ، ثم قيام سلطان الشرع من وراء ذلك ، يحذره أهل الفساد والريب كل ذلك كان يسمح بمثل ذلك ؛ حيث لا يترتب عليه مفسدة ، أما بعدهم فالواجب منع المفسدة ، ولو كان ذلك بمنع خروج النساء إلى المساجد من الأصل ، كما قالت عائشة رضي الله عنها .
فعدم وجود حاجز في المسجد بين الرجال والنساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سببه عدم مشروعية مثل هذا الحاجز ، وإنما سببه عدم الحاجة إليه ، فإذا وجدت الحاجة بعد ذلك كان وجوده مشروعا ، بحسب الحال .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
” النساء في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلين ، وليس بينهن وبين الرجال حاجز.
ولكن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم ندب إلى شيئين : الشيء الأول: أنه قال: ( بيوتهن خير لهن ) ، مع سلامة الناس في ذلك الوقت، فالصحابة هم خير القرون ، ومع ذلك قال: ( وبيوتهن خير لهن ) ؛ وهذا يعني أن صلاة المرأة في بيتها أفضل.
ثانياً: أنه قال: ( خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) ؛ وهذا يدل على أن الأفضل أن تبتعد المرأة عن مخالطة الرجل ، هذه واحدة .
أما أنه ليس بينهما من حاجز، فهل المساجد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كمساجدنا اليوم في الإضاءة والإنارة ؟ لا ، وهل نساء الصحابة كنساء اليوم؟ لا ” .
انتهى من ” لقاء الباب المفتوح ” (218 / 22 بترقيم الشاملة) .
وبهذا يظهر أن إقامة فاصل بين النساء والرجال في المسجد ، عند وجود الحاجة الداعية إليه : ليس من البدع ؛ بل هو من باب المصالح المرسلة التي شهد صنيع الشارع ، وتصرفاته ، باعتبار أصلها .
ثانيا :
أما صلاة النساء في المسجد في غرفة منفصلة عن مكان الرجال ، وكذلك لو كانت في الطابق الثاني – مثلا – فلا بأس بذلك ، وتحصل المتابعة للإمام بسماع صوته عن طريق مكبرات الصوت .
قال النووي رحمه الله تعالى :
” يشترط لصحة الاقتداء : علم المأموم بانتقالات الإمام ؛ سواء صليا في المسجد أو في غيره ، أو أحدهما فيه والآخر في غيره . وهذا مجمع عليه .
قال أصحابنا : ويحصل له العلم بذلك : بسماع الإمام ، أو من خلفه ، أو مشاهدة فعله ، أو فعل من خلفه .
ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد كل واحد من هذه الأمور” انتهى من ” المجموع ” (4 / 309) .
ويستدل لذلك بحديث عَائِشَةَ ، قَالَتْ: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ ، وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ … ” .
وقد رواه البخاري (729) تحت باب : (باب : إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ ، أَوْ سُتْرَةٌ . وقال الحسنُ : لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر. وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ – وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ – إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ ) .
ففي هذه الحادثة : لم ير الصحابة شخص النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الصلاة ، بل الرؤية كانت في حال القيام فقط ، لوجود الجدار القصير الحائل بينهم .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
” مراد البخاري بهذا الباب : أنه يجوز اقتداء المأموم بالإمام ، وإن كان بينهما طريق أو نهر ، أو كان بينهما جدار يمنع المأموم من رؤية إمامه ؛ إذا سمع تكبيره ” .
انتهى من “فتح الباري ” (6 / 297) .
وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:
” لدينا مسجد مكون من طابقين ، الدور العلوي للرجال والدور السفلي للنساء ، وتقوم النساء بالصلاة فيه جماعة مع الرجال ، وهن في الدور السفلي ، والرجال في الدور العلوي ، ولا ترى النساء الإمام ، ولا حتى صفوف الرجال ، ولكن يسمعن التكبير من خلال ( الميكرفون ) فما حكم الصلاة في هذه الحالة ؟
فأجاب : ما دام الحال ما ذكر فصلاة الجميع صحيحة ، لكونهم جميعا في المسجد ، والاقتداء ممكن بسبب سماع صوت الإمام بواسطة المكبر ، وهذا هو الأصح من قولي العلماء .
وإنما الخلاف ذو الأهمية : فيما إذا كان بعض المأمومين خارج المسجد ، ولا يرى الإمام ، ولا المأمومين، والله ولي التوفيق ” انتهى من “مجموع فتاوى ابن باز” (12 / 213 – 214) .
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
” ما حكم صلاة النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين ، وإنما يسمعن الصوت فقط ؟
فأجاب : يجوز للمرأة ، وللرجل أيضاَ : أن يصلي مع الجماعة في المسجد ، وإن لم ير الإمام ولا المأمومين ، إذا أمكن الاقتداء ، فإذا كان الصوت يبلغ النساء في مكانهن من المسجد ، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام : فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام ؛ لأن المكان واحد ، والاقتداء ممكن ، سواء كان عن طريق مكبر الصوت ، أو عن طريق مباشر بصوت الإمام نفسه ، أو بصوت المبلغ عنه ، ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا المأمومين ” .
انتهى من ” مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ” (15/ 211) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب