ما حكم صناعة الطاقة ، وإنشاء المصانع ، والمحطات المولدة للكهرباء ، وصناعة السيارات والطائرات والسفن ؟ علما أنها تؤدي إلى التلوث البيئي عند تشغيلها بسبب غازات العوادم السامة والتي تنتشر في الهواء أو المياه ، ففي هذه الحالة يوجد فائدة وضرر بنفس الوقت ، فما هو التفصيل الشرعي ؟
حكم الصناعات المعاصرة وما تسببه من تلوث بيئي
السؤال: 245258
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذه المصانع والمحطات مباحة من حيث الأصل ، وتحقق مصالح عظيمة للناس ، والفعل المباح إذا ترتب عليه مصلحة ومفسدة ، فالواجب الموازنة العادلة بينهما ، فإن كانت المفسدة أعظم ، كان هذا الفعل محرما ، لأن “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” .
وإن كانت المصلحة أعظم كان جائزا .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى :
” إذا اجتمعت مصالح ومفاسد ، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك ، امتثالاً لأمر الله فيهما ؛ لقوله – سبحانه -: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .
وإن تعذر الدرء والتحصيل ؛ فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ، ولا نبالي بفوت المصلحة ، قال – تعالى -: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) . حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما…
وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة ، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يُتخيّر بينهما ، وقد يُتوقفُ فيهما ” انتهى من ” قواعد الأحكام (1 / 136) .
وإذا نظرنا إلى هذه المصانع وجدنا ما فيه مصالح أعظم مما فيها من مفاسد لما يلي :
1- أن هذه المصانع ومحطات توليد الكهرباء إذا تم إيقافها فسوق تشق الحياة على الناس مشقة عظيمة ، ويقعون في حرج شديد ، ومثل هذا لا يحرمه الشرع ولا يأمر بإيقافه ، قال الله تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج /78.
2- أن المسلمين لو فعلوا ذلك لما استطاعوا أن يحاربوا أعداءهم ، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم ، وسيعودون إلى السيوف والحراب ! في الوقت الذي مع عدوهم أحدث الأسلحة وأشدها فتكا ! وقد أمر الله تعالى المسلمين بالأخذ بأسباب القوة وإعداد القوى لإرهاب الأعداء .
قال الله تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) الأنفال /60 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
” ( مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ، ونحو ذلك مما يعين على قتالهم ، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة …
ومن ذلك : الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى: ( وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علته .
فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها … ” .
انتهى من ” تفسير السعدي ” (ص 324 – 325) .
3- أن امتناع دولة أو دولتين ، أو حتى كل الدول الإسلامية مجتمعة عن كل هذه الصناعات لن يؤثر في التخفيف من هذه المخاطر شيئا يُذكر ، فإن الدول الصناعية الكبرى هي المسئولة بالدرجة الأولى عن انبعاث الغازات المسببة لهذه الظاهرة .
فتقول بعض التقارير :
إن دول أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية مسئولة عن 66% من غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث في الجو ، مع أنهم يمثلون أقل من 15 % من سكان العالم .
والولايات المتحدة الأمريكية التي لا يزيد سكانها عن 5% من سكان العالم مسئولة عن حوالي 25% من الغازات المنبعثة في الأجواء العالمية .
أي أن أقل من 20% من سكان العالم يطلقون أكثر من 91% من تلك الغازات ، ثم تنتشر هذه الغازات في الغلاف الجوي ليعاني منها من أطلقها ، ومن لم يطلقها على حد سواء .
وتقول التقارير : إن الولايات المتحدة الأمريكية بها نحو 130 مليون سيارة ، ينبعث منها غاز ثاني أكسيد الكربون ما يعادل كل ما ينبعث من الاقتصاد الياباني بالكامل ، وقد امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية من التوقيع على معاهدة “كيوتا” لخفض الانبعاثات الغازية في العالم .
فإذا ما أضفنا إلى ذلك سائر الدول الصناعية ، لاسيما تلك الدول التي تستخدم الطاقة النووية كالصين والهند ، يتبين أن هذه الدول هي المسئولة عن هذه الظاهرة ، وأن الدول الفقيرة مجتمعة ليس لها تأثير يذكر في تفاقم هذه المشكلة ، ومع ذلك فهي أكثر الدول معاناة من آثارها ، لضعف إمكاناتها المادية ، وخدماتها الطبية .. إلخ .
4- أن المفاسد والأضرار المترتبة على هذه الظاهرة ، يمكن الحد منها وتقليلها ، وذلك بتقليل انبعاث الغازات المسببة لهذه الظاهرة ، ثم تنقية الجو مما انبعث منها ، واختيار بين الأمثل فالأمثل من البدائل الواقعية المتاحة ، والمبالغة في الالتزام بالتدابير الوقائية ، وشروط الأمن والسلامة الممكنة ؛ حتى تبقى في المعدلات التي لا تمثل خطرا ، أو في أدنى معدل ممكن لها .
ولكن ذلك كله يحتاج إلى جهود دولية ، ومزيد من الأبحاث والأموال اللازمة لذلك .
وانظر : مقال للدكتور المهندس يوسف الإبراهيم بعنوان : “الاحتباس الحراري والكوارث الناجمة عنه” .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب