ما الأساس الذي عليه نعتبر اجتهادات العالم مذهبًا ؟
يعني لماذا نقول مذهب الشافعي ، ولا نقول مذهب النووي ، أو مذهب المقدسي.
وما هو الضابط الذي على أساسه ننسب أحد العلماء إلى مذهب معيّن، بالرغم من أن هذا العالم قد يكون بلغ درجة الاجتهاد المطلق ؟
الفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد في مذهب إمامه
السؤال: 246493
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
المذهب : هو الطريق الواضح . يقال: ذهب مذهباً حقاً ، وذهاباً وذهوباً .
والمراد به في الاصطلاح : طريق الأئمة ، أي : آراؤهم واختيارهم ، وما ذهبوا إليه من الأدلة والأحكام .
قال في القاموس: “المذهب المعتقد الذي يذهب إليه ، والطريقة ، والأصل” انتهى من ” التحبير شرح التحرير” للمرداوي (1/127) بتصرف يسير.
فآراء الإمام المجتهد المطلق، تسمى مذهبا.
وأما غير المجتهد، فلا يصح إن ينسب له مذهب ، ولا يصح أن يستقل باختيار جديد ، بل ينبغي أن يسير على مذهب مجتهد قبله ، ويسلك مسلكه .
وثمة علماء توفرت فيهم شروط الاجتهاد، كالنووي وابن قدامة وغيرهما ، لكنهم لم يستقلوا بأنفسهم ، بل سلكوا طريقة إمامهم في الاجتهاد وانتسبوا إليه، أو كان اجتهادهم ضمن الأصول التي اعتمدها إمامهم ، فلهذا لم تعتبر آراؤهم مذاهب جديدة ، ولم تنسب إليهم ، وهؤلاء يطلق عليهم: المجتهدون في المذهب ، أي في مذهب إمامهم.
قال المرداوي رحمه الله في بيان أصناف المجتهدين: ” واعلم أن المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام: مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه، أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة أو مسائل، ذكرها في ” آداب المفتي والمستفتي ” ، فقال:
القسم الأول ” المجتهد المطلق ” وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر ” كتاب القضاء ” على ما تقدم هناك إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية، من الأدلة الشرعية العامة والخاصة، وأحكام الحوادث منها، ولا يتقيد بمذهب أحد…
قال في آداب المفتي والمستفتي: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق ، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول، لأن الحديث والفقه قد دونا، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات، والآثار، وأصول الفقه، والعربية، وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية، قد أهملوه وملوه، ولم يعقلوه ليفعلوه. انتهى..
قلت: قد ألحق طائفة من الأصحاب المتأخرين بأصحاب هذا القسم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه، وتصرفاته في فتاويه وتصانيفه تدل على ذلك.
القسم الثاني ” مجتهد في مذهب إمامه، أو إمام غيره “، وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرا منه على أهله ، فوجده صوابا وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه، قال ابن حمدان في ” آداب المفتي ” وقد ادعى هذا منا ابن أبي موسى، في شرح الإرشاد الذي له، والقاضي أبو يعلى وغيرهما ، ومن الشافعية خلق كثير .
قلت: ومن أصحاب الإمام أحمد – رضي الله عنه -، فمن المتأخرين: كالمصنف [أي ابن قدامة]، والمجد، وغيرهما .
وفتوى المجتهد المذكور، كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه، مستقلا بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده، مع إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسائل الفقه، عالما بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرا على التخريج والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه…
وهذا شأن أهل الأوجه والطرق في المذاهب، وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن .
فمن علم يقينا هذا، فقد قلد إمامه دونه [أي : فقد قلد الإمام الذي ينتسب إليه هذا المجتهد ، ولم يقلد هذا المجتهد] ؛ لأن معوّله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه؛ لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه…
فالمجتهد في مذهب الإمام أحمد – رضي الله عنه – مثلا: إذا أحاط بقواعد مذهبه، وتدرب في مقاييسه وتصرفاته: ينزل ، من الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه ، منزلة المجتهد المستقل ، في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه، وهذا أقدر على ذا من ذاك على ذاك، فإنه يجد في مذهب إمامه قواعد ممهدة، وضوابط مهذبة، ما لا يجده المستقل في أصول الشارع ونصوصه …
والحاصل: أن المجتهد في مذهب إمامه: هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع، ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط…
الحالة الثالثة : أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذهب ، أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره، ونصرته، يصور، ويحرر، ويمهد، ويقوي، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ، ويعرفه من أدلته : عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه، وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق .
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب، وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف، بما يشتغل به الناس اليوم غالبا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه، ويمهد الطرق في المذاهب…
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب، ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه: من منصوصات إمامه، أو تفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وتخريجاتهم، … ويكفي استحضاره أكثر المذهب، مع قدرته على مطالعة بقيته قريبا.
القسم الثالث ” المجتهد في نوع من العلم “، فمن عرف القياس وشروطه: فله أن يفتي في مسائل منه قياسية، لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض: فله أن يفتي فيها، وإن جهل أحاديث النكاح وغيره، وعليه الأصحاب، وقيل: يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها، وقيل: بالمنع فيهما، وهو بعيد، ذكره في آداب المفتي.
القسم الرابع ” المجتهد في مسائل، أو مسألة “، وليس له الفتوى في غيرها .
وأما فيها : فالأظهر: جوازه .
ويحتمل المنع؛ لأنه مظنة القصور والتقصير، قاله في آداب المفتي والمستفتي .
قلت: المذهب الأول، قال ابن مفلح في أصوله: يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم، وجزم به الآمدي، خلافا لبعضهم، وذكر بعض أصحابنا مثله، وذكر أيضا قولا : يتجزأ في باب، لا مسألة. انتهى. وقد تقدم ذلك في أواخر ” كتاب القضاء ” .
فهذه أقسام المجتهد، ذكرها ابن حمدان في آداب المفتي والمستفتي” انتهى من “الإنصاف”(12/258-265) مختصرا.
وينظر : “صفة الفتوى” لابن حمدان (16-24) ، “التحبير” للمرداوي (8/3886) وما بعدها .
وبان بهذا أن مجتهدي المذهب، قد يكون فيهم من استجمع شروط الاجتهاد ، لكنه انتسب لإمامه، أو تقيد بأصوله، فلهذا لا تنسب آراؤه إليه باعتبارها مذهبا خاصا ، ولا يعد صاحب مذهب، بل هو نفسه منتسب إلى مذهب إمامه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب