كيف يكون بيع السلم مُباحا، وليس فيه أن الشيء يكون في حوزه البائع ، الذي سيسلم المنتج فيما بعد ، وفي الحديث الصحيح : ” لا تبع ما ليس عندك ” ؟
كيف يصح بيع السلم مع أنه بيعٌ لما ليس عنده ؟
السؤال: 254814
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( لا تبع ما ليس عندك ) يقصد به المنع من بيع الأعيان التي لا تزال في ملك أشخاص آخرين ، وعلى ذلك يدل سبب ورود الحديث .
فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه : ” قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي ، أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق ؟ فقال : ( لا تبع ما ليس عندك ) .
رواه الترمذي ( 1232 ) ، وأبو داود ( 3503 ) ، والنسائي ( 4613 ) ، وابن ماجه ( 2187 ) ، وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي ” .
” قال ابن المنذر : وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يقول : أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة ، فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها .
ثانيهما : أن يقول : هذه الدار بكذا ، على أن أشتريها لك من صاحبها ، أو على أن يسلمها لك صاحبها ” .
قال ابن حجر : ” وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني ” انتهى من “فتح الباري” (6/460) .
فتبين من هذا أن السبب في منع بيع الإنسان ما لا يملك : هو الغرر الناشئ عن عدم القدرة على تسليم المبيع المعين ، وما قد يترتب على ذلك من النزاع ، فإن البائع قد لا يستطيع تحصيل المبيع المعين ، والمشتري يطالبه به ، لأن العقد قد تم ، فيحصل بينهما النزاع .
ثانيا :
أما إذا كان المبيع مما ينضبط بالوصف ، ويغلب على الظن وجوده في وقت التسليم ، فتبايعا على أن يوفر له المبيع في موعده ، فهذا هو بيع السلم ، وهو جائز بالكتاب والسنة وعلى ذلك عامة علماء المسلمين .
أما الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) البقرة/282
قال ابن عباس : ” أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه ، وأذن فيه ) ، ثم قرأ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم ) البقرة/282 “.
أخرجه الشافعى (1314) ، والحاكم (2/286) ، والبيهقى (6/18) وقال الألباني عن سنده : صحيح على شرط مسلم . “إرواء الغليل” (5/213) .
وأما السنة فما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ” قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: ( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) رواه البخاري (2240) ، ومسلم (4202) .
قال ابن حجر رحمه الله : ” واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب ” .
انتهى من ” فتح الباري ” (7/76) .
ثالثا :
واستشكال السائل انعدام السلعة وعدم وجودها وقت العقد في بيع السلم غير مؤثر في صحة البيع ، لأن بيع السلم ليس بيعا لسلعة معينة (كسيارة معينة) ، وإنما هو بيع لسيارة تتوفر فيها الصفات المتفق علها بين البائع والمشتري ، فمتى جاءه بسيارة تتوفر فيها هذه الصفات ، فقد أدى ما عليه ، ووفَّى بالتزامه .
ولذلك لم يشترط العلماء لجواز بيع السلم ، وجود السلعة في ملك البائع وقت البيع ، وإنما اشترطوا أن يغلب على ظنه وجودها عند حلول الأجل .
قال ابن القيم رحمه الله :
” وَأَمَّا السَّلَمُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، تَوَهَّمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ .
وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ ، مَوْصُوفٌ ، مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا..
وَقِيَاسُ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ ، الَّتِي لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ، مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إلَيْهِ فِي مَغْلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ..
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ (لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ، بَلْ مِلْكٌ لِلْغَيْرِ، فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ حِسًّا وَلَا مَعْنًى، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا؟ ” .
انتهى من ” إعلام الموقعين عن رب العالمين ” (2/20) .
وقال الشيخ الصادق الضرير رحمه الله :
” السلم ليس من بيع المعدوم الممنوع ؛ لأن جمهور الفقهاء الذين جوزوا أن يكون المسلم فيه غير موجود وقت العقد، اشترطوا أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا يخرجه من المعدوم الممنوع بيعه ، ويدخله في المعدوم الجائز بيعه ؛ لأنه كما يقول ابن تيمية وابن القيم: ” لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة : أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة .
إذن فليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء المعدومة هي العدم، كما أنه ليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة هي الوجود، فوجب أن تكون هناك علة أخرى للنهي عن بيع تلك الأشياء المعدومة، وهذه العلة هي الغرر، فالمعدوم الذي هو غرر : نهي عن بيعه لكونه غررا، لا لكونه معدوما، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل، وقد لا يحمل، وإذا حمل، فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه ” .
انتهى من “مجلة البحوث الإسلامية” (9/260) .
ومن الآثار المترتبة على الفرق بين بيع الموصوف في الذمة وبين بيع الأعيان :
أن البائع ملزم بتسليم ما باعه في ذمته ، عند حلول أجله ، ولو تلف محصوله الذي كان سيؤدي منه ، فيلزمه تسليم ما عقد أسلم فيه ، ولو أن يشتريه من غيره .
وأما بيع المعين : فإنه لا يلزم إلا بتسليم ما باعه بعينه ، ولا يلزم ببدل عنه .
سئل الشيخ ابن عثيمين :
ما هو الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تبع ما ليس عندك ) وبين إجازتنا أن يعقد على الشيء عقد سلم وهو حال ؟
فأجاب : السلم هو على شيء موصوف في الذمة ، فالفرق أن قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبع ما ليس عندك ) يقصد المعين .
أما الموصوف في الذمة : فهذا غير معين .
ولهذا نطالب الذي باع الشيء الموصوف بالذمة ، نطالبه بإيجاده على كل حال .
وأما الشيء المعين لو تلف ، ما نطالبه به ” انتهى من البيوع من “الكافي” (1/ 274) بترقيم الشاملة .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب