اتفق البائع والمشتري في المجلس على بيع سيارة بسعر معين دون تسليم الثمن ولا السلعة، ثم بعد أن تفرقا رغب المشتري في التراجع عن الشراء؛ إما لأنه لم يرتح للصفقة، أو شعر أنه مغبون في السعر، أو لأي سبب، فهل يحق له فسخ البيع؟
أولا:
إذا تم البيع، وتفرق المتبايعان، لزم البيع، ولم يملك أحدهما فسخه إلا لموجبٍ للخيار، كالعيب أو الغبن، أو أن يفسخ برضى صاحبه.
روى البخاري (2112)، ومسلم (1531) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكِ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ).
ولا أثر لكون البائع لم يقبض الثمن، والمشتري لم يقبض السيارة، ما دام البيع تم على سيارة معيَّنة.
أما إذا كان البيع لسيارة غير معينة، بل في الذمة، فهذا بيعُ مؤجل بمؤجل، وهو لا يصح، ويسمى بيع الكالئ بالكالئ.
قال في "كشاف القناع" (3/ 163) في بيان الفرق بين بيع السلعة المعينة الموصوفة، وبيع السلعة الموصوفة غير المعينة: " (وهو) أي: البيع بالصفة (نوعان: أحدهما بيع عين معينة، سواء كانت العين المعينة غائبة مثل أن يقول: بعتك عبدي التركي ويذكر صفاته) التي تضبط وتأتي في السلم (أو) كانت العين المبيعة بالصفة (حاضرة مستورة، كجارية منتقبة، وأمتعة في ظروفها، أو نحو ذلك)...
(و) هذا النوع (يجوز التفريق) من متبايعيه (قبل قبض الثمن، وقبل قبض المبيع كحاضر) بالمجلس...
(و) النوع (الثاني) من نوعي البيع بالصفة (بيع موصوف غير معين، ويصفه بصفة تكفي في السلم، إن صح السلم فيه) بأن انضبطت صفاته (مثل أن يقول: بعتك عبدا تركيا ثم يستقصي صفات السلم فيه فهذا في معنى السلم) ...
(ويشترط في هذا النوع قبض المبيع، أو قبض ثمنه في مجلس العقد)؛ لأنه في معنى السلم".
ثانيا:
إذا ندم المشتري، وكان المبيع على الصفة التي وصفت له، ولم يكن به ما يوجب الخيار، فالسبيل أمامه هو دعوة البائع للإقالة؛ أي فسخ البيع برضاه، ويستحب للبائع قبول ذلك؛ لما روى أبو داود (3460) وابن ماجه (2199) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
ثالثا:
إذا وجد غبن في الثمن، فللمشتري الخيار بين فسخ البيع أو إمضائه.
والغبن المعتبر يُرجع فيه إلى عادة التجار، عند الجمهور.
وفي "الموسوعة الفقهية" (20/150): " والمراد بالغبن الفاحش عند الحنفية والمالكية في الراجح والحنابلة في قولٍ: أن العبرة في تقدير الغبن على عادة التجار. وإن اختلفت عباراتهم فإنها كلها تؤدي إلى هذا المعنى.
وإنما كانت العبرة بتقويم المقومين، لأنهم هم الذين يُرجَع إليهم في العيوب ونحوها من الأمور التي تقتضي الخبرة في المعاملات.
والقول الثاني لكل من المالكية والحنابلة: أن المعتبر في الغبن الثلث.
والقول الثالث للمالكية ما زاد على الثلث" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إذا اشترى سلعة بـ (2500) ريال، وهي لا تساوي إلا (1500) ريال، فإن كان البائع يعلم أن السعر (1500) ريال، ولكنه وجد هذا الرجل الغريب الذي لا يعرف الأسعار وباعها عليه بـ (2500)، فإنه آثم ولا يحل له ذلك.
وإذا علم المشتري بهذا فله الخيار، وهذا يسمى خيار الغبن؛ لأن (1000) من (2500) كثير. وأما لو كان الغبن يسيراً، كـ (10%)، فهذا لا يضر، ولا يزال الناس يتغابنون بمثله.
أما إذا كان البائع لا يعلم، مثل: أن تكون هذه السلعة بـ (2500)، ونزل السعر، والبائع لا يدري بنزوله، فالبائع غير آثم، لكن حق المشتري باقٍ، وله الخيار؛ لأنه مغبون" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (56/ 14).
رابعا:
جمهور الفقهاء على حصر خيار الغبن في صور معدودة يحصل فيها التغرير من أحد الطرفين للآخر، كتلقي الركبان، والنجش، والمسترسل الذي يقول: أبيعك بما يشتري الناس وهو لا يدري، فهؤلاء هم الذين لهم الخيار، وأما غير هؤلاء فلا خيار لهم عند الجمهور.
قال في "كشاف القناع" (3/213): " (وأما من له خبرة بسعر المبيع، ويدخل على بصيرة بالغبن، ومن غُبِن لاستعجاله في البيع، ولو توقف فيه ولم يستعجل لم يغبن: فلا خيار لهما)؛ لعدم التغرير" انتهى.
وذهب المالكية في قولٍ إلى أن خيار الغبن يثبت لكل من غُبن بالثلث، إذا كان يجهل القيمة.
قال الدسوقي: " وقال المتيطي: قال بعض البغداديين: إن زاد المشتري في المبيع على قيمته الثلث فأكثر: فسخ البيع، وكذلك إن باع بنقصان الثلث من قيمته فأعلى؛ إذا كان جاهلا بما صنع، وقام قبل مجاوزة العام، وبهذا أفتى المازري وابن عرفة والبرزلي وابن لُب ومشى عليه ابن عاصم في متن التحفة حيث قال:
ومن بغبن في مبيع قاما**** فشرطه أن لا يجوز العاما
وأن يكون جاهلا بما صنع**** والغبن للثلث فما زاد وقع
وعند ذا يفسخ بالأحكام**** وليس للعارف من قيام
اهـ. قلت: والعمل به مستمر عندنا بفاس اهـ. بن" انتهى من "الشرح الكبير" (3/ 140).
وينظر: "البهجة شرح التحفة" (2/ 175).
وينظر: جواب السؤال رقم: (263764).
وعليه، فإن كان الفرق بين الثمن الذي تم الشراء به وسعر السوق فرقا معتبرا، وكان البائع قد غَرَّر به، أو كان المشتري يجهل القيمة- على قول المالكية- فله الخيار بين فسخ البيع أو إمضائه.
وإذا لم يكن شيء من ذلك، ولا عيب، فالبيع لازم، ولا يملك المشتري الفسخ إلا برضى البائع.
والله أعلم.