في كتاب “معرفة قواعد البدع” للجيزاني استشهد الكاتب بقول لابن تيمية من كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم” : ” لأن جميع المبتدعات لابد أن تشمل على شر راجح على مافيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملتها الشريعة ” .
(فنحن نستدل بكونها بدعة علة ان اثمها اكبر من نفعها وزلك هو الموجب للنهي)
هل هذا قيد ؛ أي أن يرجح الشر على الخير في الشيء ليكون بدعة .
وجملة ، وهذا هو الموجب للنهي ، ما الدليل على هذه الجملة ؛ لأنه قد توجد بدعة ، ويكون خيرها أكثر من شرها ، أو هل يمكن أن يكون قصده أنها في النهاية تؤول إلى شر أكبر من خيرها الظاهر أمامنا الآن ؟
البدعة قد يترتب عليها فائدة لكنها مهدرة في جانب شرها ومفسدتها
السؤال: 261927
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
البدعة : هي كل أمر محدث في الدين ، لم يدل عليه دليل من الشرع.
وقد تكون بدعة حقيقية، لم تشرع بأصلها ، ولا وصفها، كبدعة عبادة القبور ، وبناء المساجد عليها ، وتعظيمها.
وقد تكون بدعة إضافية، وهي ما كان أصله مشروعا، لكن دخله الابتداع من جهة التخصيص بزمان أو مكان أو هيئة أو عدد ، لم يرد به دليل من الشرع . كتخصيص أيام معينة بعدد معين من الأذكار ونحو ذلك، مما تجده مبينا في جواب السؤال رقم (174660).
ثانيا:
البدعة مذمومة بنوعيها –الحقيقي والإضافي- وقد يوجد في بعض البدع الإضافية ، بعض الفائدة والنفع لصاحبها ، أو لمن حوله، لكنه نفع مغمور في مفسدة البدعة .
فالبدعة شرها راجح، ومن أعظم شرها : أنه يلزم من اعتقادها ، وسلوكها : نوع استدراك على الشارع، واتهام له بالنقص، فمهما كان فيها من نفع كترقيق القلب، أو الإحسان للفقراء بالإطعام في المواسم المبتدعة، ونحوه، فهو مهدر ، في جنب ما فيها من مخالفة قصد الشارع ، بل نصه في النهي عن المحدثات ، وما يلزم عنها من الاستدراك على الشارع .
قال ابن الماجشون رحمه الله: ” سمعت مالكا يقول: “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم)، فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا” انتهى من الاعتصام للشاطبي (1/ 65).
وهذا المعنى، أعني أن البدعة قد تشتمل على فائدة-لكنها مهدرة في جانب المفاسد المترتبة عليها- هو ما نبه عليه الدكتور محمد بن حسين الجيزاني في “قواعد البدع” ص37 بقوله:
” لا يشترط في البدعة ألا يوجد لها بعض الفوائد، بل قد توجد لبعض البدع بعض الفوائد، إذ ليست البدع من قبيل الباطل الخالص الذي لا حق فيه، ولا هي من الشر المحض الذي لا خير فيه.
وهذه الفوائد التي قد توجد في بدعة من البدع لا تجعلها مشروعة، ذلك لأن الجانب الغالب في البدعة هو المفسدة، وأما جانب الفائدة والمنفعة فهو مرجوح؛ فلا يبنى عليه ولا يلتفت إليه.
قال ابن تيمية: ( بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضًا فوائد، وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع من جنسه، كما أن أقوالهم لا بد أن تشتمل على صدق ما ، مأثور عن الأنبياء . ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم ، أو نروي كلماتهم.
لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة.
فنحن نستدل بكونها بدعة ، على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي .
وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض ؛ لاجتهاد أو غيره)” انتهى.
فكون الشر غالبا في البدعة : وصفٌ لازم لها، وليس قيدا احترازيا ، قد يوجد وقد لا يوجد، وهذا واضح من النقل عن شيخ الإسلام وقوله: ” لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير”.
وأما قول السائل: ” لأنه قد توجد بدعة ، ويكون خيرها أكثر من شرها” : فهذا ليس صحيحا، فلا يمكن أن يكون في البدعة خير يزيد على مفسدتها وشرها؛ إذ لو كان كذلك لما ذمها الشارع ، ومنع منها، لأن الشريعة لا تنهى عما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة.
بل نحن إذا علمنا أن فعلا ما بدعة في الشرع، علمنا بذلك أن مفسدته وشره : أعظم من نفعه ، على فرض وجود نفع فيه .
وقد أشرنا إلى مثال ذلك، كالمنفعة الحاصلة للمتعبد بالأذكار المبتدعة، فإنه قد يجد راحة وصفاء لقلبه، لكن مفسدة البدعة من جهة أنها استدراك على الشارع أعظم بكثير من هذه المنفعة، إلى غير ذلك من المفاسد الآتي ذكرها .
على أن هذه المنفعة يمكن تحصيلها ، بأتم من ذلك ، وأكمل ، بالطريق المشروع ، كما لا يخفى. فكل منفعة يمكن أن تترتب على البدع، يمكن تحصيلها بالطريق المشروع من غير ابتداع.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، بعض مفاسد البدع بعد كلامه السابق ، فقال:
” وأما ما فيها من المنفعة، فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة: منها:
مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية: أن القلوب تستعذبها ، وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح ، والصلوات الخمس.
ومنها: أن الخاصة والعامة تنقص -بسببها- عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها، ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة ؛ وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يفته هذا كله، فلا بد أن يفوته كماله.
ومنها: ما في ذلك من مصير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشاء زرع الجاهلية.
ومنها: اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل: تأخير الفطور، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة، والمبادرة إلى تعجيلها، والسجود بعد السلام لغير سهو، وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته.
ومنها: مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع ، وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع ، بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: ما ترك أحد شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه. ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ومنها: ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدَثين، النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه” انتهى من “اقتضاء الصراط المستقيم” 2/ 118).
وقال الشاطبي رحمه الله في بيان مفاسد البدعة:
” 1-أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع، قد عيّن لمطَالب العبد طُرقا خاصة، على وجوه خاصة، وقصرَ الخلق عليها، بالأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌّ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثَمَّ طرقا أٌخَر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأنّ الشارع يعلم، ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم مالم يعلمه الشارع.
وهذا العمل من المبتدِع، إن كان مقصودًا، فهو كفر، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال.
2 -ثم إن المبتدع بعمله هذا قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع ، وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق ، فيما كانوا فيه يختلفون، فالشرع ليس من مدركات العقول، حتى يضع كل إنسان تشريعا من عند نفسه، ولو كان الأمر كذلك، لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشرية، فكأن هذا المبتدع في دين الله قد صيّر نفسه نظيرًا ومضاهيا للشارع، حيث عمل تشريعا مثله، وفتح باب الاختلاف والفرقة.
3 -ثم إن هذا العمل من المبتدع أيضا، اتباع للهوى، والشهوات والله يقول: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) ، فمن لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضلُّ منه) .
4-أن هذا المبتدع في دين الله عز وجل، الذي جعل نفسه مضاهيا للشارع، قد جاء ذمُّهُ في كتاب الله عز وجل لأنه من زاغ ، أزاغ الله قلبه، إذ الجزاء من جنس العمل فالله يقول: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ، وذلك باتباعهم المتشابه من القرآن، وترك محكمه، وابتغائهم تأويله، أي تحريفه” انتهى ملخصا من الاعتصام (1/ 68).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب