ما التوجيه الصحيح فيمن يدعو بالدعاء المأثور : ” اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ” ، وهل الصحيح والأولى استبدال لفظ ” ويذل ” بـ” ويهدى ” ؟
حكم دعاء اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك
السؤال: 271928
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
روى هذا الدعاء ابن ابي شيبة في “المصنف” (15 / 163) تحت باب “ما يدعو به للعامة: كيف هو” بسند صحيح عن طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ – وهو تابعي-، أنه كان يقول: ( اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرًا رَشِيدًا، تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فيه عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ ).
وورد في “المعرفة والتاريخ” للفسوي (2 / 24)؛ قال:
” حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ يَلْقَانَا فَقَلَّمَا نَفْتَرِقُ حَتَّى نَقُولَ: ( اللَّهمّ اسْمُ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرًا رَشَدًا يُعَزُّ فِيهِ وَلِيُّكَ، وَيُذَلُّ فِيهِ عَدُوُّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ لِطَاعَتِكَ، وَيُتَنَاهَى عَنْ سَخَطِكَ ). ” انتهى.
وسفيان الثوري راوي هذا الدعاء قد استحسنه فكان ممّا يدعو به كما في “حلية الأولياء” لأبي نعيم (7 / 81).
وقد تتابع أهل العلم على الدعاء به.
قال السبكي في “طبقات الشافعية” (8 / 243) عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
” وكان يدعو به إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر، وهو: اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك ” انتهى.
وقال الماوردي رحمه الله تعالى:
” وروي عن بعض التابعين أنه كان يقول في القنوت: ” اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشيدا، تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وتنهي عن معصيتك “، فإن قنت بهذا جاز، والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت أحب إلينا من غيره ” انتهى، من “الحاوي الكبير” (2 / 153).
وأما بلفظ: ” يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك ” فهو لفظ انتشر في العصور المتأخرة وأقدم ما وقفنا عليه؛ أنه ذكر في دعاء القنوت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ كما في “المستدرك على الفتاوى” (3 / 107).
وما زال يدعو به عدد من أهل العلم الأفاضل، كالشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى كما في جامع خطبه “الضياء اللامع – القسم الأول” (ص 266 ، 370)، وقد أفتى بمشروعيته الشيخ عبد الرحمن البراك.
https://ar.islamway.net/fatwa/35927
ثانيا:
هذا الدعاء بهذه الصيغة هو مجمل قد تسبق إلى ذهن السامع له بعض المعاني غير الصحيحة:
كأن يفهم أن المقصود بأهل المعصية كل من يلابس معصية أيّا كان، فهذا المعنى، لا يتصور أن الداعي يقصده؛ لأنه بهذا يكون معرضا نفسه وأهله لخطر هذا الدعاء، فلا أحد يضمن لنفسه عدم الوقوع في المعصية.
وليس المقصود به ذل أهل المعصية وصغارهم دوما ، وألا تنالهم عزة بتوبة صادقة، فهذا المعنى يستبعد أن يقصده عالم أو فقيه، وهو خلاف المقصود العام من هذا الدعاء كما سيأتي بيانه.
وليس المقصود أيضا ذلهم دوما ولو كانوا في موقف حق، فهو معنى يستبعد أن يقصده من له علم، فأصحاب المعاصي كشرّاب الخمر مثلا إذا جاهدوا الكفار فإنه يُدعى لهم بالنصر والعزة في هذا الموقف، ولهذا من مذهب أهل السنة أن الجهاد ماض مع كل برّ وفاجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكر كثير الفجور .
فإنه لا بد من أحد أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا .
وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الإسلام؛ وإن لم يمكن إقامة جميعها.
فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها؛ بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (28 / 506 – 507).
أما المعنى الذي يقتضيه سياق الدعاء؛ هو أنّ الله قضى وقدّر أن الصراع بين أهل الطاعة والمعصية ، وبين الحق والباطل : ماض إلى آخر الزمان، وأن الداعي ينظر إلى مصلحة الأمة العامة ، فيسأل الله أن تكون كلمة أهل الطاعة مسموعة عند أفراد الأمة ، وقوتهم غالبة ، فيتحقق صلاح العوام بهذه العزة .
وفي المقابل يسأل الله أن تكون قوة الداعين إلى المعاصي واهنة ، وصوتهم خافتا ؛ فلا يكون لدعوتهم أثر ، وتنجو الأمة من شرهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ) رواه مسلم (2674).
وذلة أصحاب المعاصي هي دافع قوي إلى توبة كثير منهم، واعتبر ذلك بأهل الشرك في عصر النبوة، فإنه لما كانت لهم قوة كانوا يمتنعون عن الإسلام ويحاربونه، فلما ذهبت قوتهم وذلوا، كما في عام الفتح، فإنهم تسابقوا إلى الدخول في الإسلام وأصبحت الوفود تتوالى على المدينة النبوية طوعا؛ كما وصف هذه الحال قوله تعالى:
( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) النصر (1 -3).
فالحاصل؛ أن هذا الدعاء بهذا المعنى الأخير فيه خير للأمة ولأهل المعاصي أنفسهم، ولا يظهر فيه ما يخالف الشرع.
لكن من جعل مكان لفظ الذلة الهداية فلا بأس ، وهو أسلم من الإشكال فيه ؛ لأنه دعاء ليس ثابتا بالوحي، فيجوز التصرف فيه بالتغيير بما لا يخالف الشرع.
ولو التزم الوارد عن السلف ، بذكر : “عدوك” ، فيدعو بالعزة لأولياء الرحمن ، والذلة لأعدائه ، أو يقول : يعز فيه أهل موالاتك ، ويذل فيه أهل معاداتك ، ونحو ذلك : فهو أسلم أيضا ، وأتبع للوارد عن السلف .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب