كيف يمكن للشخص الذي يخشى أنه قد يقوم بأعمالٍ بدعيّةٍ أن يتوب إذا كان لا يعرف أيّ الأعمال التي يقوم بها هي بدعيّة؟ وهل هناك دعاءٌ لتحمي نفسك من الوقوع في البدع؟ وكيف يمكن نصح الآخرين الذين يقعون بالبدع بأحسن طريقة؟
ما سبل الوقاية من البدع؟
السؤال: 275661
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
لا شك أن البدع خطرها عظيم، وعواقبها وخيمة، في الدنيا والآخرة؛ ومن ذلك:
أن البدع سبيل إلى النار نعوذ بالله تعالى منها، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُولُ: … وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ رواه مسلم (867) والنسائي (1578) بزيادة: وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ وصححها الألباني في "ارواء الغليل" (3 / 73).
والبدع هي سبب عظيم من أسباب الافتراق والاختلاف الحاصل في الأمة من القديم إلى يومنا هذا. وبسببها حصلت مظالم كثيرة، وقد يموت الواحد ممن وقع في ذلك ولم يتب منها، لأنه يظن نفسه على الحق ، ومن هنا ازداد تحذير السلف من البدع ، لأن المبتدع يرى نفسه محسناً ، فكيف سيتوب من بدعته ؟!
كما أن المبتدع يصرف جهده ووقته في أعمال يأتي يوم القيامة فلا يجد لها نفعا.
قال الله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات.
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات»انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/ 449).
وقال الشاطبي، رحمه الله: "فوصفهم بالضلال، مع ظن الاهتداء: دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما، كانوا من أهل الكتاب، أوْ لَا؛ من حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة ). انتهى، من " "الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني" (1/ 102).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ ، فَهُوَ رَدٌّ رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: ( الأعمال بالنيات ) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (1 / 176).
ثانيا:
المسلم الذي يشعر بخطورة البدع: لا بد أن يسعى لتوقيها، وحماية نفسه منها؛ ومن أهم الخطوات التي تفيد في ذلك بمعونة الله تعالى:
طلب العلم الشرعي ، فلا يفعل عبادة من العبادات إلا إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها أو أمر بها وحث عليها ، ولا يقبل على عمل إلا بعد معرفة حكمه في الشرع ومعرفة دليله ، وذلك بسؤال أهل العلم من أهل السنة والاتباع لهدي السلف الصالح؛ والتعلم من أهل العلم يكون بالمشافهة أو من خلال كتبهم.
وعلى المسلم أن يتجنب مصاحبة أهل البدع وحضور مجالسهم، وقراءة كتبهم؛ لكيلا يُفتتن بكلامهم، ولكي لا تحيط بقلبه الشبهات.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى:
" وذكر الشيخ موفق الدين [يعني : ابن قدامة] رحمه الله في المنع من النظر في كتب المبتدعة، قال: كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم " انتهى. "الآداب الشرعية" (1 / 251).
وعلى المسلم كثرة التضرع إلى الله تعالى بأن يهديه الصراط المستقيم ويجنبه سبل البدع والضلال؛ فيقرأ الفاتحة في صلاته وهو حاضر القلب، ومتضرع إلى الله تعالى بأن يستجيب له ما فيها من الدعاء: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) الفاتحة/6 – 7.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) وهذا أفضل الأدعية وأوجبها على العباد.
ومن تحقق بهذا الدعاء جعله الله من أهل الهدى والرشاد؛ فإنه سميع الدعاء لا يخلف الميعاد " انتهى. "مجموع الفتاوى" (8/515).
والمواظبة على الدعاء النبوي الذي روته عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: كَانَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ رواه مسلم (770).
وعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ: اللهُمَّ! اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ رواه مسلم (2725).
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى:
" هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم يدلّ على أن الذي ينبغي له أن يهتمّ بدعائه، فيستحضر معاني دعواته فِي قلبه " انتهى."المفهم" (7 / 53 – 54).
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ رواه النسائي (1304) وغيره، وصححه الألباني لغيره في "صحيح الموارد"، وحسنه محققو المسند (28/338).
وكذلك يتوب المسلم توبة عامة مما يعلم من الذنوب ومما لا يعلم؛ فالإنسان قد يعمل الذنب أو البدعة وهو غير منتبه، فيدعو الله تعالى أن يغفر له ذنوبه عامة كما في حديث أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ، وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَجِّدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719).
ثالثا:
البدع لما كانت من أعظم المنكرات ؛ كان إنكارها ونصح أصحابها والسعي في إزالتها من أعظم القربات.
قال الله تعالى :
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ آل عمران/104.
وعن أَبي سَعِيدٍ الخدري ، قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رواه مسلم (49) .
والإنكار ونصح الناس بالإقلاع عن شيء من البدع؛ يحتاج من القائم بهذا أن يكون متصفا بأمرين:
الأمر الأول: أن يكون عنده من العلم الصحيح ما يثبت بدعية هذا الشيء ، وإذا أمكن أن ينتقل له أقوال العلماء الذين يثق في علمهم ويأخذ بأقوالهم فهو جيد ، وأقرب إلى اقتناعه.
قال الله تعالى:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يوسف /108.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله … كما قال تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) فمن اتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة أي على بينة وعلم " انتهى. "مجموع الفتاوى" (27 / 427).
وللأهمية راجع الفتوى رقم: (224073).
الأمر الثاني: الرفق في الإنكار والنصح، فإن القلوب مجبولة على الانقياد لمن يرفق في مخاطبتها وإرشادها.
قال الله تعالى :
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ النحل/125.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" أي : ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم ، إلى سبيل ربك المستقيم ، المشتمل على العلم النافع ، والعمل الصالح ( بِالْحِكْمَةِ ) أي : كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده …
فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق . أو كان داعيه إلى الباطل ، فيجادل بالتي هي أحسن ، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا .
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود ، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ، ولا تحصل الفائدة منها ، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها " انتهى . "تفسير السعدي" (ص 452).
فتخاطب من يقع في البدعة، أو تكاتبه بعبارات حسنة تشير إلى عدم صحة ذلك العمل المبتدع وتشير إلى دليل ذلك أو مصدر موثوق.
ومما يجدر الانتباه إليه؛ هو إن كان هذا المبتدع ممن يسعى في نشر بدعته وإثارة الشبهات، فالأولى لك عدم الجلوس إليه وترك مخالطته ومحادثته لأن ذلك هو الأسلم لدينك.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان ذلك، فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية " انتهى. "التمهيد" (6 / 127).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة