هل نقيس كل أمر شرعي على مقياس ( فعله أم لم يفعله أصحاب القرون الثلاثة ) مثلا: صلاة التهجد التي نصليها اليوم في جماعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا أحد من القرون المفضلة ، وعدم الفعل لا يعني النهي ، وحتى النهي نفسه فيه نهي كراهة ونهي تحريم أو كان ابن تيمية يذهب إلى الأماكن المهجورة ، ويمرغ وجهه في التراب انكسارا وتذللاً لله تعالى عبادة طالباً من الله أن يفتح عليه ، وهذا أمر لم يرد بهذا الوصف . فهل هذا يبرر أن نبدِّع كل أمر محدث ، كالمولد النبوي مثلا .
ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وعدم المانع
السؤال: 284700
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
البِدعة: كل محدَث في الدين لم يفعلْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا صحابته، ولم يندرجْ تحت أصلٍ شرعي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى” (4/ 107): “البِدعة في الدين هي ما لم يَشرَعْه الله ورسولُه، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب.
فأمَّا ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ، وعُلم الأمر به بالأدلَّة الشرعيَّة : فهو من الدِّين الذي شرَعه الله …
وسواء كان هذا مفعولًا على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أو لم يكن .
فما فُعِل بعده ، بأمْره ، مِن قتال المرتدين والخوارج المارقين ، وفارس والروم والترك ، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك : هو من سُنَّته” انتهى.
والتهجد جماعة : مشروع لفعله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وقد قام بهم نحوًا من ثلث الليل ، ونصفه ، وذلك في العشر الأواخر من رمضان.
فقد روى النسائي (1364) ، والترمذي (806) ، وأبو داود (1375) ، وابن ماجه (1327) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : ” صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ كَانَتْ سَادِسَةٌ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) وصححه الألباني في “صحيح النسائي”.
وقد جمع عمر رضي الله عنه الصحابة على صلاة التراويح، وسمى ذلك بدعة أي من جهة اللغة؛ لأن اجتماعهم على هذه الصفة، والمداومة: لم يكن في عهد النبي صلى الله وسلم، وإن استند إلى الأصل الذي ذكرناه.
مع أن الضابط فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إن تركه لمانع، أو لعدم وجود المقتضي، ففعله الناس بعد ذلك، لعدم المانع أو لوجود المقتضي: لم يكن بدعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ترك جمع الناس على التراويح أو التهجد لمانع ، وهو خشية أن تفرض عليهم.
قال ابن رجب رحمه الله :”وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية، لا الشرعية ، فمِنْ ذلك قولُ عمر – رضي الله عنه – لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال: “نعمت البدعةُ هذه.
وروي عنه أنَّه قال: إنْ كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة “
ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها: أنَّ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يحُثُّ على قيام رمضان ، ويُرَغِّبُ فيه ، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً، ووحداناً، وهو – صلى الله عليه وسلم – صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ، ثم امتنع مِنْ ذلك، معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده – صلى الله عليه وسلم” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (2/ 783) .
ثانيا:
مثال ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع وجود المقتضي وعدم المانع: الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.
فإن المقتضي لهذا الاحتفال إما تعظيمه، أو تذكير الناس بسيرته، أو شكر الله على نعمة وجوده، وهذا كله كان موجودا في عهده صلى الله وعليه وسلم، وفي زمن أصحابه، لا سيما وقد فتحوا بلدانا أهلها يحتفلون بمعظَّميهم، فلما تركوا هذا الاحتفال، دل على أنه بدعة محدثة، وكل بدعة ضلالة.
وانظر: جواب السؤال رقم : (128530) ، ورقم : (148053) .
ثالثا:
من كلام أهل العلم في تقرير السنة التركية، وما في خلافها من البدعة:
قال الشاطبي رحمه الله: “ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك، إلا جواز الترك = غير جار على أصول الشرع الثابتة.
فلنقرر هنا أصلا لهذه المسألة ، لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه:
وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما، أو تركه لأمر ما = على ضربين:
أحدهما: أن يسكت عنه ، أو يتركه ، لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرَّر لأجله، ولا وقع سبب تقريره؛ كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها؛ وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها ، وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين .
وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح، مما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما هو معقول المعنى؛ كتضمين الصناع، … جمع المصحف، ثم تدوين الشرائع، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره…
والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص، أو يترك أمرا ما من الأمور، وموجِبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا أنه لم يحدَّد فيه أمر زائد على ما كان في ذلك الوقت .
فالسكوت في هذا الضرب : كالنص على أن القصد الشرعي فيه، أن لا يزاد فيه على ما كان من الحكم العام في أمثاله، ولا ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجِب لشرعية الحكم العملي الخاص موجودا، ثم لم يشرع، ولا نبه على استنباطه؛ كان صريحا في أن الزائد على ما ثبت هنالك: بدعة زائدة، ومخالفة لقصد الشارع؛ إذ فُهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك، لا الزيادة عليه، ولا النقصان منه” انتهى من “الاعتصام” (2/ 281).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع وجود ما يُعتقد مقتضيا، وزوال المانع : سنة ؛ كما أن فعله سنة.
فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة ؛ كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك، كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات ، وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن ينصب مكانًا آخر يُقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة.
ونحن نعلم أن هذا ضلالة ، قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة.
فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع ، لو كان خيرا .
فإن كل ما يبديه المحدِث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس” انتهى من “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 103).
وقال ابن حجر الهيتمي: “أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنْكَرُوا الاذان لغير الصَّلَوَات الْخمس ، كالعيدين ، وَإِن لم يكن فِيهِ نهي، وكرهوا استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين ، وَالصَّلَاة عقيب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة قِيَاسا على الطّواف.
وَكَذَا مَا تَركه – صلى الله عليه وسلم – مَعَ قيام الْمُقْتَضي : فَيكون تَركه سنة ، وَفعله بِدعَة مذمومة.
وَخرج بقولنَا: “مَعَ قيام الْمُقْتَضي فِي حَيَاته” : تَركه إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب ، وَجمع الْمُصحف، وَمَا تَركه لوُجُود الْمَانِع ، كالاجتماع للتراويح ، فَإِن الْمُقْتَضي التَّام يدْخل فِيهِ الْمَانِع” انتهى من “الفتاوى الحديثية” ص200 .
رابعاً:
كون ابن تيمية رحمه الله يقصد المساجد المهجورة، ليناجي ربه ويفزع إليه، لا إشكال فيه، وكذلك كونه يمرغ وجهه في التراب تذللا وتعظيما لله.
قال ابن عبد الهادي رحمه الله:
” وَكَانَ رَحمَه الله يَقُول رُبمَا طالعت على الْآيَة الْوَاحِدَة نَحْو مائَة تَفْسِير ، ثمَّ أسأَل الله الْفَهم ، وَأَقُول : يَا معلم آدم وَإِبْرَاهِيم عَلمنِي .
وَكنت أذهب إِلَى الْمَسَاجِد المهجورة وَنَحْوهَا ، وأمرغ وَجْهي فِي التُّرَاب ، وأسأل الله تَعَالَى وَأَقُول : يَا معلم إِبْرَاهِيم فهمني” انتهى من “العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، ص42
وقال في ص378: ” وَكَانَ يخرج من بَيته لَيْلًا ، وَيرجع إِلَيْهِ لَيْلًا ، وَلَا يجلس فِي مَكَان معِين بِحَيْثُ يُقْصد فِيهِ ، وَلكنه يأوي إِلَى الْمَسَاجِد المهجورة ، والأماكن الَّتِي لَيست بمشهورة .
وَكَانَ كثير الْعِبَادَة والتأله والمراقبة وَالْخَوْف من الله .
وَلم يزل على ذَلِك إِلَى حِين مَرضه ووفاته” انتهى.
فالتعبد لله في المساجد، والبعد عن الناس، وابتغاء الخلوة، كل ذلك قد دل عليه الشرع، فلا يكون بدعة.
والظاهر من فعل شيخ الإسلام رحمه الله، أنه كان يقصد بذلك السجود، والتذلل له في الدعاء، والافتقار إليه؛ وليس مجرد تمريغ للوجه، خال عن السجود، على صفة السجود الشرعي المعروفة، كما يسجد للتلاوة، والشكر، ونحو ذلك؛ واختيار الشيخ رحمه الله: أن ذلك مشروع، ونقل أصل المشروعية عن بعض السلف.
قال ابن مفلح رحمه الله:
” وقال شيخنا: ولو أراد الدعاء، فعفر وجهه لله بالتراب، وسجد له ليدعوه فيه: فهذا سجود لأجل الدعاء، ولا شيء يمنعه.
وابن عباس سجد سجودا مجردا، لما جاء نعي بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عليه السلام: “إذا رأيتم آية فاسجدوا” .
قال: وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات؛ فالمكروه هو السجود بلا سبب”. انتهى، من “الفروع” (2/314). وهو بنصه في “الاختيارات”، للبعلي (92)، ونقله أيضا في “كشاف القناع” (1/450).
قال الدكتور فهد بن عبد العزيز الفاضل: “فالسجود لله جل جلاله من أعظم دلائل الإجلال، وتمريغ الوجه في التراب أقصى علامات التذلل لذي الجلال والسلطان. فهو أقصى درجات العبودية، وأجل مظاهر التذلل، وأصدق دلائل الإذعان، وأعذب مناظر الخشوع، وأفضل أثواب الافتقار” انتهى من “مجلة البحوث الإسلامية” (71/ 102).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة