السؤال:
ما معنى قول أهل السنة أن الفرد الممتنع عن بعض الشرائع لا يكفر، هل ممكن توضحون لي ما يقصدون بالامتناع؟ وما هي هذه الشرائع؟ وتذكرون لي مراجع وعلماء تكلموا عن هذه النقطة؟
هل يحكم بكفر الممتنع عن بعض شرائع الإسلام كالزكاة؟
السؤال: 288227
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
من امتنع عن بعض الشرائع، كالزكاة والصوم والحج، فإن الزكاة تؤخذ منه قهرا، ويُعزّر، ويقاتل إن امتنع، ولا يكفر بذلك.
ويجبر على الصوم، فإن امتنع: قُتِل حدا، ولم يكفر، وكذلك الحج.
قال في زاد المستقنع في كتاب الزكاة: "فَإِنْ مَنَعَهَا جَحْداً لِوُجُوبِهَا: كَفَرَ عَارِفٌ بالحُكْمِ.
أو بُخْلاً أخِذَتْ مِنهُ وَعُزِّرَ".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: «أو بخلاً» أي منع الزكاة بخلاً، والبخل منع ما يجب، والشح الطمع فيما ليس عنده.
فالبخيل ممسك، والشحيح مقتطِع، يريد أن تكون أموال الناس جميعاً عنده.
قوله: «أخذت منه، وعُزِّر»؛ أي: أخذت الزكاة ممن منعها بخلاً، وأُدِّبَ.
وقوله: «أخذت»: فعل مبني للمجهول. والآخذ هو من له حق الأخذ، وهو الذي يُلزم الناس بالشرع، والسلطان هو الذي له الحق، ولذلك فإنه يأخذها من البخيل قهراً، ويُعزره.
والتعزير يطلق على معان عدة، منها: التوقير، والنصرة؛ لقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].
ومنها: التأديب، كما هو مراد المؤلف، وسمي التأديب تعزيراً مع أن أصل التعزير النصرة، لأن فيه نصرة للإنسان على نفسه؛ لأنه إذا أدب استقام وانتصر على نفسه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». قالوا: يا رسول الله هذا المظلوم؛ فكيف ننصره ظالماً؟ قال: «تمنعه من الظلم فذاك نصره». فهذا الذي أدبناه يكون تعزيره نصراً في الواقع، لأننا نصرناه على نفسه؛ إذ إن هذا سيردعه عما كان عليه…
ولم يبين المؤلف كيف يعزر؟ بالضرب أم بالحبس أم بالتوبيخ أمام الناس، أم بغير ذلك من وسائل التأديب؟
فقيل: المقصود بالتعزير التأديب، فما يحصل به التأديب هو الواجب، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يعزر بالمال وهو البخيل، ومنهم من يعزر بالضرب، ومنهم من يعزر بالتوبيخ أمام الناس، أو بالفصل من الوظيفة، ولذلك فإن التعزير لا يرتبط بعقوبة معينة؛ لأن المراد منه الإصلاح والتأديب، وهذا يختلف باختلاف الناس، ولهذا أطلق المؤلف التعزير، فقد يقترف رجلان ذنباً واحداً، أحدهما نعزره بالمال، والآخر بالضرب.
والصحيح: أنه يعزر بما ورد في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيمن منعها: «إنا آخذوها، وشطرَ ماله؛ عزمة من عزمات ربنا».
ولا شك أن الشرع إذا عين نوعاً من العقوبة، ولو بالتعزير فهي خير مما يفرضه السلطان، فنأخذها وشطر ماله.
وشطر المال أي: نصفه" انتهى من الشرح الممتع (6/ 191- 200).
وقال في الروض المربع مع الحاشية (3/ 249): "(أو بخلاً) أي ومن منعها بخلاً، من غير جحد (أُخذت منه) فقط قهرًا، كدَين الآدمي، ولم يكفر، (وعزر) إن علم تحريم ذلك، وقوتل إن احتيج إليه، ووضعها الإمام في مواضعها، ولا يكفر بقتاله للإمام" انتهى.
وقال في كشاف القناع (2/ 257): "(وإن لم يمكن أخذها)؛ أي الزكاة، من مانعها، (إلا بقتال: وجب على الإمام قتاله، إن وضعها مواضعها)؛ لاتفاق الصديق مع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وقال " والله لو منعوني عناقا – وفي لفظ: عقالا – كانوا يؤدونه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم عليها " متفق عليه فإن لم يضعها مواضعها لم يقاتله، لاحتمال أن منعه إياها لاعتقاده ذلك عذرا" انتهى.
وقال في مطالب أولي النهى (1/ 283): "(وَمَنْ تَرَكَ زَكَاةً) تَهَاوُنًا (أَوْ) تَرَكَ (صَوْمًا أَوْ) تَرَكَ (حَجًّا تَهَاوُنًا قُتِلَ حَدًّا) لَا كُفْرًا، وَذَلِكَ (بَعْدَ اسْتِتَابَةٍ وَامْتِنَاعٍ)" انتهى.
وقد بسط الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، ذلك المقام بسطا وافيا، وقرره بما ذكره من المعرفة بأحوال الناس، وأصناف "المرتدين" بعد وفاة النبي صلى الله عليهم، وفيه بيان: أنهم لم يكونوا جميعهم أهل ردة عن الإيمان، بل منهم من "ارتد= امتنع" عن أداء الحق الواجب عليه. قال:
" وأهل الردة بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضربان:
منهم قوم كفروا بعد إسلامهم، مثل: طليحة، ومسيلمة، والعنسي، وأصحابهم.
ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام، ومنعوا الصدقات.
فإن قال قائل: ما دل على ذلك، والعامة تقول لهم أهل الردة؟
قال الشافعي رضي الله عنه: فهو لسان عربي.
فالردة: الارتداد عما كانوا عليه بالكفر.
والارتداد بمنع الحق.
قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال: ارتد عن كذا.
وقول عمر لأبي بكر: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله )؟ وقول أبي بكر: ( هذا من حقها ، لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ) معرفة منهما معًا بأن ممن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان، ولولا ذلك ما شك عمر في قتالهم، ولقال أبو بكر: قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين.
وذلك بين في مخاطبتهم جيوش أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم ومخاطبتهم لأبي بكر بعد الإسار فقال شاعرهم:
ألا أَصْبحينا قبل نائرةِ الفجر … لعل منايانا قريبٌ، وما ندري
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا … فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
فإن الذي سألوكم، فمنعتمُو … لكالتمر، أو أحلى إليهم من التمر
سنمنعهمو، ما كان فينا بقيةٌ … كرام على العزاء في ساعة العسرِ
وقالوا لأبي بكر بعد الإسار: ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شَحَحْنا على أموالنا.
(قال الشافعي): وقول أبي بكر: ( لا تفرقوا بين ما جمع الله )؛ يعني، فيما أرى والله تعالى أعلم: أنه مجاهدهم على الصلاة، وأن الزكاة مثلُها.
ولعل مذهبه فيه: أن الله عز وجل يقول: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ).
وأن الله تعالى فرض عليهم شهادة الحق، والصلاة، والزكاة؛ وأنه متى منع فرضا قد لزمه؛ لم يُتْرَكْ ومنعَه؛ حتى يؤديه، أو يقتل.
(قال الشافعي): فسار إليهم أبو بكر بنفسه، حتى لقي أخا بني بدر الفزاري، فقاتله معه عمر، وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أمضى أبو بكر خالدَ بن الوليد، في قتال من ارتد، ومن منع الزكاة، معا. فقاتلهم بعوامّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ففي هذا: الدليلُ على أن من منع ما فرض الله عز وجل عليه، فلم يقدر الإمامُ على أخذه منه بامتناعه= قاتله؛ وإن أتى القتال على نفسه.
وفي هذا المعنى: كلُّ حقٍّ لرجل على رجل، منعه.
قال: فإذا امتنع رجلٌ من تأدية حق وجب عليه، والسلطان يقدر على أخذه منه= أخذه، ولم يقتله. وذلك: أن يقتل فيقتله، أو يسرق فيقطعه، أو يمنع أداء دين فيباع فيه ماله، أو زكاة فتؤخذ منه.
فإن امتنع دون هذا، أو شيء منه، بجماعة، وكان إذا قيل له أدِّ هذا، قال لا أؤديه، ولا أبدؤكم بقتال إلا أن تقاتلوني= قوتل عليه؛ لأن هذا إنما يقاتَل على ما منع من حق لزمه.
وهكذا من منع الصدقة، ممن نسب إلى الردة؛ فقاتلهم أبو بكر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال الشافعي): ومانع الصدقة: ممتنع بحق، ناصب دونه؛ فإذا لم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتاله؛ فالباغي يقاتل الإمامَ العادل= في مثل هذا المعنى؛ في أنه لا يعطي الإمام العادل حقا إذا وجب عليه، ويمتنع من حكمه، ويزيد على مانع الصدقة أن يريد أن يحكم هو على الإمام العادل، ويقاتله فيُحل قتاله، بإرادته قتاله الإمام.
قال: وقد قاتل أهلُ الامتناع بالصدقة، وقَتَلوا، ثم قُهروا؛ فلم يُقِدْ منهم أحدا، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلا هذين متأول:
أما أهل الامتناع: فقالوا قد فرض الله علينا أن نؤديها إلى رسوله. كأنهم ذهبوا إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم}.
وقالوا: لا نعلمه يجب علينا أن نؤديها إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل البغي: فشهدوا على من بغوا عليه بالضلال، ورأوا أن جهاده حق.
فلم يكن على واحد من الفريقين، عند تقضي الحرب: قصاص، عندنا، والله تعالى أعلم.
ولو أن رجلا واحدا قتل على التأويل، أو جماعة غيرُ ممتنعين، ثم كانت لهم بعد ذلك جماعة ممتنعون، أو لم تكن= كان عليهم القصاص، في القتل، والجراح، وغير ذلك، كما يكون على غير المتأولين.
فقال لي قائل: فلم قلت في الطائفة الممتنعة الغاصبة المتأولة، تَقتل، وتُصيب المال: أزيل عنها القصاص، وغُرم المال إذا تلف؛ ولو أن رجلا تأول، فقتل، أو أتلف مالا: اقتصصت منه، وأغرمته المال؟
فقلت له: وجدت الله تبارك وتعالى يقول: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يُحل دم مسلم: ( أو قتلَ نفسٍ بغير نفسٍ )، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من اعتبط مسلما بقتل؛ فهو قود يده ).
ووجدت الله تعالى قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }؛ فذكر الله عز وجل قتالهم، ولم يذكر القصاص بينهما.
فأثبتنا القصاص بين المسلمين، على ما حكم الله عز وجل في القصاص. وأزلناه في المتأولين الممتنعين. ورأينا أن المعنيَّ بالقصاص من المسلمين: هو من يكن ممتنعا، متأولا. فأمضينا الحكمين على ما أُمضيا عليه.
وقلت له: علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، ولي قتال المتأولين، فلم يقصص من دم ولا مال أصيب في التأويل.
وقتله ابنُ مُلْجِم متأولا، فأمر بحبسه، وقال لولده: إن قتلتم، فلا تمثلوا.
ورأى له القتل، وقتله الحسن بن علي – رضي الله تعالى عنهما -، وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا نعلم أحدا أنكر قتله، ولا عابه، ولا خالفه في أنْ يَقتُل؛ إذ لم يكن له جماعة يمتنع بمثلها.
ولم يُقِدْ عليٌّ، وأبو بكر قبله، وليَّ من قتلته الجماعة الممتنَعُ بمثلها على التأويل، كما وصفنا، ولا على الكفر.
(قال الشافعي): والآية تدل على أنه إنما أبيح قتالهم في حالٍ؛ وليس في ذلك إباحة أموالهم، ولا شيء منها.
وأما قطاع الطريق، ومن قتل على غير تأويل؛ فسواء جماعة كانوا، أو وحدانا؛ يقتلون حدا، وبالقصاص، بحكم الله عز وجل في القتلة وفي المحاربين." انتهى. " الأم" (5 / 516-520).
ثانيا:
المراد بالامتناع هنا: المنع، أي أن يأبى دفع الزكاة للعامل إذا طلبها منه، ويفطر في نهار رمضان جهارا، ويأبى الصوم، ويقدر على الحج بماله وبدنه، فيأبى أن يحج.
وهذا كله مع الإقرار بالوجوب، والتزام الأحكام وقبولها.
وأما إن امتنع جحودا، أو ردا للحكم الشرعي، كأن يقول: الزكاة لا تجب، أو واجبة، لكنها لا تلزمني، فهذا يكفر؛ لأن الجحود والردّ مكفّران.
فالامتناع على هذا المعنى الأخير يقابل الالتزام، فمن رد الحكم ولم يلتزمه: كان كافرا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين.
وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة لو تركت السنة الراتبة، كركعتي الفجر هل يجوز قتالها؟ على قولين.
فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة: فيقاتَل عليها بالاتفاق، حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات ويؤدوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت، ويلتزموا ترك المحرمات؛ من نكاح الأخوات وأكل الخبائث والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال ونحو ذلك.
وقتال هؤلاء واجب ابتداء، بعد بلوغ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بما يقاتلون عليه.
فأما إذا بدءوا المسلمين، فيتأكد قتالهم، كما ذكرناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق؛ وأبلغ.
والجهاد الواجب للكفار والممتنعين عن بعض الشرائع، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم: يجب ابتداء ودفعا.
فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به به من يكفيه سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95].
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن.
وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قَصَدَهم العدوُّ عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحدٍ، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذمَّ الذين يستأذون النبي صلى الله عليه وسلم: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].
فهذا دَفْعٌ عن الدين والحُرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلائه لإرهاب العدوّ، كغزاة تبوك ونحوها، فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة.
فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم، فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس، وغيرها من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك.
فمن كان لا يصلي من جميع الناس: رجالهم ونسائهم، فإنه يؤمر بالصلاة، فإن امتنع عُوقِب حتى يصلي بإجماع العلماء. وأكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل، فيُستتاب فإن صلى وإلا قُتِل. وهل يُقتل كافرًا أو مرتدًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره، والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره، وهذا مع الإقرار بالوجوب، فأما من جَحَدَ الوجوب فهو كافر بالاتفاق.
بل يجب على الأولياء أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعًا، ويضربوه عليها لعشر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع». وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها. ومن تمام ذلك: تعاهُد مساجد المسلمين وأئمتهم، وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» رواه البخاري.
وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال: «إنما فعلت هذا لتأتمُّوا بي ولتعلموا صلاتي».
وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم، فلا يُفَوِّتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم، بل على إمام الصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة، ولا يقتصر على ما يجوز لمنفردٍ [أ/ق 54] الاقتصارُ عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر.
وكذلك على إمامهم في الحج، وكذلك أميرهم في الحرب. ألا ترى أن الوكيل والوليَّ في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله، وهو في مالِ نفسِه يفوِّت نفسَه ما شاء، فأمرُ الدين أهمّ، وقد ذكر الفقهاء هذا المعنى.
ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس؛ صلح للطائفتين دينُهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم. ومِلاك ذلك كله: حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه. فإن الإخلاصَ والتوكلَ جِماعُ صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإن هاتين الكلمتين قد قيل: إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء.". انتهى، من "السياسة الشرعية" (166-171) ط عطاءات العلم.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: "فمن هنا يظهر لنا أن لفظ الاستحلال خاض فيه أقوام كثيرون في هذا الزمن ، ومنهم من تكلم في الاستحلال الظاهر ، وأن المعاصي الظاهرة قد تكون استحلالاً ، أي يستدلون بظهور الذنوب والكبائر على أنه استحلال لها بقيوده عنده ، واستدلوا عليه بأشياء.
وهذا عند أهل العلم غير مُسلَّم به ؛ لأن هناك ألفاظًا تتصل بهذا البحث ، ومن أهمها لفظا الالتزام والامتناع ؛ لأن الامتناع معناه رد الحكم . والالتزام معناه قبول الحكم ، والامتناع راجع إلى الاعتقاد…
فالامتناع يقابل في نصوص أهل العلم، بالالتزام ، والالتزام معناه القبول ، وهو غير الجحد.
يعني: القبول هو أن يكون مُلتزمًا بهذا ، أي أن يكون مخاطبًا به ، فنقول مثلاً : فلان من الناس ملتزم بأحكام الشريعة ، فلان من الناس ملتزم بتحريم الزنا ، لكنه يزني ، فما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما: أنه إذا التزم حرمة الزنا؛ فمعناه أنه يقول: نعم أنا مخاطب بأن الزنا محرم ، وأنا داخل في هذا الخطاب ، لكن فعله للزنا يكون له حكم أهل الكبائر .
وأما إذا قال : أنا غير مخاطب أصلاً، كحال الذي نكح امرأة أبيه في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث البراء بن عازب المعروف ، فالنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – (أرسل إليه رجلاً ليخمس ماله ، يضرب عنقه ويخمس ماله) ، لِمَ ؟ هل لأنه استحل الفعل ؟ لا ، قال العلماء : لأنه لم يلتزم بالحكم ، وكان ذلك في الجاهلية، فلما نزل قول الله – جل وعلا – : ﴿ وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ النساء : 22 ]، وخوطب بذلك، فلم يلتزم، وسار على ما كان عليه في الجاهلية = فدل فعله على أنه لم يلتزم، ولا يقال : دل فعله على استباحته ، دل الفعل على عدم التزامه بحكم الشريعة الجديد الذي يلغي حكم الجاهلية.
ولهذا يتكلم العلماء عن الطائفة الممتنعة، ويقابلون بين الامتناع وعدم الالتزام.
وهذه مسألة مهمة ، فكثير ممن كتبوا في نواقض الإيمان ، أو كتبوا في التكفير: لم يراع في هذه المسألة فهم كلام العلماء فيها ، فدخل في مسألة الاستحلال، ومعنى الامتناع، بفهم الامتناع على غير مراد الفقهاء.
وهذا الذي جعلني أقول في البداية : إن الاهتمام بلغة العلم ضروري في فهم كلام أهل العلم…
فإذا قال قائل: هذه الصلاة أصلاً غير واجبة؛ فهذا يكون جاحدًا.
إذا قال: الصلاة واجبة، لكن على غيري، أما أنا فغير ملتزم بها، أي هي واجبة، وأنا مقتنع بأن الله فرض الصلاة، لا شك في ذلك، والنصوص تؤكد ذلك، لكن على غيري، مثل ما يقوله غلاة الصوفية يقولون: سقطت عنا التكاليف .
هنا: هل يكون كفرهم بالجحد؟ هم يجحدون حكم الصلاة؟ يجحدون وجوب الصلاة؟ ويجحدون تحريم الزنا؟ لا يجحدون كل ذلك، بل يقولون: نعم كل هذا محرم، الزنا محرم، لكنهم لا يلتزمون بذلك، يعني أنهم لا يقولون: إنهم داخلون في الخطاب .
وهذا معنى عدم الالتزام ، يمتنع من الامتثال. أي لا يجعل نفسه داخلاً في الخطاب، فيقول: أنا ممتنع من قبول دخولي في الخطاب أصلاً .
مثل ما يكون من غلاة الصوفية ، الذين يقولون : سقطت عنا التكاليف .
فكفرهم لم يأت من جهة أنهم جحدوا وجوب الصلاة ، يقولون : لا ، الصلاة واجبة ويجب عليكم أن تصلوا . ويأمرون الناس بالصلاة . ولكن من جهة أنهم لم يدخلوا أنفسهم في الحكم" انتهى من موقع الشيخ.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب