هل ممكن شرح وأمثلة لقول ابن القيم في كتابه “أسرار الصلاة” عن احتياج الإنسان للهداية في ، “وأمور هو غير قادر عليها ولا مريد لها ” ؟
شرح قول الإمام ابن القيم (وأمور هو غير قادر عليها ولا مريد لها …).
السؤال: 299164
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
يقول ابن القيم رحمه الله :
” ثم تأمَّل ضرورته وفاقته إلى قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، الذي مضمونه: معرفة الحق وقصده، وإرادته والعمل به، والثبات عليه، والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو.
فباستكمال هذه المراتب الخمس : تُستكمل الهداية، وما نقص منها ، نقص من هدايته.
ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره:
من أمورٍ قد فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادةً، فهو محتاج إلى التوبة منها، وتوبته منها هي الهداية.
وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
وأمورٍ قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليتمَّ له الهداية ويُزاد هدى إلى هداه.
وأمور يحتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها، مثل ما حصل له في ماضيها.
وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتُثبِت فيه ضدَّه.
وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها.
وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا، فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها.
وأمور منها هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتم له الهداية. وأمور هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملًا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها.
كانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات !!
[وقد] فرضَ عليه الرب الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة ، في أفضل أحواله ، وهي الصلوات الخمس مراتٍ متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب، ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذن ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:
مُنعَمٌ عليه بحصولها، واستمرار حظّه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.
وضالٌّ لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفَّق لها.
ومغضوب عليه عرفَها ولم يُوفَّق للعمل بموجبها.” انتهى.
“الكلام على مسألة السماع” (101 – 102) ، وبنحوه في كتاب “الصلاة” (354) .
يشرح الإمام ابن القيم افتقار الإنسان للهداية، وأن الله تعالى حين أمره بسؤاله إياها بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فإن العبد مفتقر إلى هذه الهداية، في ظاهره وباطنه، في جميع ما يأتيه ويذره.
ثانيا :
الهداية: ليست مجرد هداية البيان العام ، والتعريف بدين الله ، الذي يحصل للعبد إذا علم ما شرعه الله له في المسألة المعينة، فإن هداية البيان : قد عم الله بها عباده ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإقامة الحجة ، وقطع المعذرة .
بل هو محتاج بعد ذلك : إلى تفاصيل الهداية ، في كل نازلة تنزل به ، وفي كل ما يتعلق بأمر محياه ، ومماته ؛ وذلك لا يكون إلا بفضل رب العالمين ، وتعليمه له .
ثم هو محتاج في كل أمر تعلمه ، وفهمه : أن يعطيه الله القدرة على العمل به ؛ فكم من عبد علم فضل قيام الله ، لكن لا قدرة له عليه ، ولا طاقة له ؛ إما لعجز بدنه ، بمرض ، أو اعتلال ، أو هرم ، أو نحو ذلك من أسباب العجز عن هذه العبودية ؛ وإزالة هذه الموانع عن إقامة العبودية ، وأعطاء الصحة ، والعافية ، والقدرة عليها : هي من هداية الله لعبده ؛ فيسأله أن “يهديه” ؛ فيعطيه هذه الأسباب ، لإقامة العبودية ، من قيام ليل ، أو صيام نهار ، أو صدقة يحبها ، ولا مال عنده لها ، فيدعو الله أن يرزقه المال ، ليتمكن من الصدقة … وهكذا .
فإذا تأملت ذلك، عرفت كم من الخير أهداه النبي صلى الله عليه وسلم ، لصاحبه الذي يحبه ، حينما علمه أن يدعو ربه بهذه الهداية ، هداية الإعانة على فعل الخيرات :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ !!
فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ رواه أبو داود (1522) وصححه الألباني .
وتعلم أن طلب هذه الهداية ، هداية القدرة والاستطاعة : هو أعظم من كل كنز ، يسعى العبد في كنزه ، وخير له من كل غنى يطلبه .
عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ قَالَ وَأَنَا خَلْفَهُ، وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ .
رواه البخاري (4205) ، ومسلم (2704) .
ثم هو محتاج ، إذا رزقه الله القدرة : أن يعطيه المحبة ، والإرادة ، والرغبة التامة في إقامة هذه العبودية ؛ فكم من عبد يعلم فضل قيام الليل؛ ويعلم ما فيها من شرف ، ثم لا تحدثه نفسه أن يقوم بين يدي رب العالمين ، في جوف الليل ؛ إنما هي الأماني ، والغرور .
وكم من عبد يعلم فضل الصدقة ، ثم تجود نفسه بإعطاء الفقير ، ولا إطعام المسكين ، ولا تفريج كربة المكروب المحتاج .
وكم من عبد يعلم فضيلة الجهاد ، ثم يموت ، يوم يموت ، ولم يغز لله غزوة ، ولم تحدثه نفسه ذات مرة : بالغزو ؛ فمات على شعبة من النفاق ، كما أخبر الصادق المصدوق ، صلى الله عليه وسلم .
فالعبد محتاج إلى هداية ربه في ذلك ، بأن يشرح صدره لهذه الطاعة ، ويحببها إليه ، ويمن عليه بسلوكها .
ولتعرف قدر هذه النعمة ، والهداية إليها ، تأمل قول الله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأنعام/125 .
وتأمل ، كم من الناس من قد ضاق صدره عن شعيرة من شعائر الله ، فلم تتوجه همته إليها ، بل نفرت نفسه منها ، بل ربما كره ما فيها من الخير ، والطهر ، ومالت نفسه إلى الشر ، والنجس ، والعياذ بالله .
ولهذا، امتن الله على عباده بأن حبب إليهم الخير ، ورغبهم فيه . قال الله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الحجرات/7-8 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” وأما الإرادة الجازمة، من القادر : فلا توجد ، إلا ويُوجَد الفعل .
فإنه متى وُجِدت الإرادة التامة ، والقدرة التامة : وجب وجودُ الفعل، فإن ذلك هو سببه التام، فيمتنع عدمُ الفعل بعد وجود سببه التامّ.
وحيثُ تعذَّرَ: فلخللٍ في القدرة ، أو في الإرادة”، جامع المسائل، م 8: (60).
ويقول شيخ الإسلام أيضا :
“ولهذا كان المشروع في حق كل ذي إرادة فاسدة من الفواحش والظلم والشرك والقول بلا علم أحد أمرين:
1- إما إصلاح إرادته .
2- وإما منع قدرته .
فإنه إذا اجتمعت القدرة ، مع إرادته الفاسدة = حصل الشر .
وأما ذو الإرادة الصالحة ، فتؤيد قدرته ، حتى يتمكن من فعل الصالحات .
وذو القدرة الذي لا يمكن سلب قدرته يسعي في إصلاح إرادته بحسب الإمكان .
فالمقصود : تقوية الإرادة الصالحة، والقدرة عليها ، بحسب الإمكان .
وتضعيف الإرادة الفاسدة ، والقدرة معها ، بحسب الإمكان .
ولا حول ولا قوة إلا بالله”، وهذا لا يصلح إلا بتوفيق الله وهدايته، ولذلك أمر الإنسان أن يسأل الله الهداية المتضمنة لذلك، انظر: “جامع الرسائل” لابن تيمية (2/ 361).
فإذا تبين ذلك ، علم أن الهداية إلى عمل الطاعة : محض فضل من الله جل جلاله على عبده ، فليتواضع لربه بها ، ولتجد نفسه بها ، وليحمد الله عليها ، ويشكره على أن وفقه إليها :
قال الله تعالى : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الحجرات/7-8 .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب