أريد تفصيل لو سمحت عن معنى البدعة عند الإمام الشافعي
ما مراد الإمام الشافعي بتقسيمه البدعة إلى محمودة ومذمومة؟
السؤال: 300961
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
روى أبو نعيم في الحلية (9/ 113) عن حَرْمَلَة بْنِ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ، يَقُولُ:
” الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ:
بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ.
فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ: فَهُوَ مَحْمُودٌ.
وَمَا خَالَفَ السُّنَّةَ: فَهُوَ مَذْمُومٌ.
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ “.
وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى البيهقي في المدخل بإسناد صحيح، كما في مجموع الفتاوى (20/ 163).
وروى البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 469) عن الشافعي قوله:
” المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً؛ فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا؛ وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر، رضي الله عنه، في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها ردّ لما مضى” انتهى.
وهذا تقسيم للبدعة اللغوية، أي ما يسمى بدعة من جهة اللغة، وهو الأمر المحدث، فمنه مذموم، ومنه ممدوح، كما قال عمر في جمع الناس على التراويح، فسماه بدعة، وجعله محمودا؛ لأن التراويح قد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يواظب عليها خشية أن تفرض على أمته.
فحيث كان للفعل أصل صحيح، فإنه يكون ممدوحا، ولا يضر تسميته بدعة.
قال الإمام أبو شامة، رحمه الله:
” ثمَّ الْحَوَادِث منقسمة الى بدع مستحسنة، والى بدع مستقبحة.
قَالَ حَرْمَلَة ابْن يحيى سَمِعت الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول: الْبِدْعَة بدعتان بِدعَة محمودة وبدعة مذمومة؛ فَمَا وَافق السّنة فَهُوَ مَحْمُود، وَمَا خَالف السّنة فَهُوَ مَذْمُوم.
وَاحْتج بقول عمر رضى الله عَنهُ فِي قيام رَمَضَان نعمت الْبِدْعَة ..”
قال أبو شامة: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حث على قيام شهر رَمَضَان، وَفعله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِد، واقتدى فِيهِ بعض الصَّحَابَة لَيْلَة بعد أُخْرَى.
ثمَّ ترك النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك بِأَنَّهُ خشى أَن يفْرض عَلَيْهِم. فَلَمَّا قبض النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أُمِن ذَلِك؛ فاتفق الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم على فعل قيام رَمَضَان فِي الْمَسْجِد جمَاعَة؛ لما فِيهِ من أَحيَاء هَذَا الشعار الَّذِي أَمر بِهِ الشَّارِع، وَفعله، وحث عَلَيْهِ، وَرغب فِيهِ. وَالله أعلم” انتهى، من الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص22).
وبعض أهل العلم يرى أن “قيام رمضان” الذي قال عنه عمر رضي الله عنه : ( نعمت البدعة هذه ) ليس بدعة شرعية في حقيقة أمره، وإن قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بأصحابه تلك الليالي، لأن ما جمع عليه الفاروق عمر الصحابةَ: سنةٌ، أُمر الناس باتباعها؛ لا أنها بدعة؛ وأين ذلك من بدع المبتدعين فيما بعد؟ ومن له تلك الخصوصية التي كانت للخلفاء الراشدين؟!
قال الإمام أبو موسى المديني، رحمه الله: ” في حَديثِ عُمَرَ، رضي الله عنه، في قِيامِ شَهرِ رمضان: (فنِعْمَت البِدعَةُ هَذِه): إنَّما سَمَّاها بِدعةً، لأَنَّ رسوَل الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّها لهم، ولا كانَتْ في زمان أَبى بَكْر.
وقِيامُ شَهرِ رَمضانَ جَماعَةً، في حَقَّ التَّسْمِية: سُنَّةٌ، غَيرُ بِدْعَة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسُنَّتِى وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرِّاشِدين من بَعْدىِ، واقْتَدُوا باللَّذَيْنِ من بَعْدِى: أَبِي بَكْر وعُمَر”.
قال الشَّافِعىُّ: البِدعَةُ بِدعَتان، بِدْعَة حَسنَة، كقولِ عُمَر: “نِعمَت البِدعةُ هَذِه” والأُخرَى بِدعَةُ ضَلالة”. انتهى، من “المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث” (1/ 137).
وحيث لم يكن له أصل صحيح، فهو بدعة مذمومة، وهو البدعة شرعا.
ولهذا أطلق جماعة من أهل العلم أن البدعة في عرف الشرع كلها مذمومة، بخلاف البدعة بمفهوم اللغة.
قال ابن رجب رحمه الله: “وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية، لا الشرعية، فمِنْ ذلك قولُ عمر – رضي الله عنه – لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال: نعمت البدعةُ هذه. وروي عنه أنَّه قال: إنْ كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة “
ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها: أنَّ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً، وهو – صلى الله عليه وسلم – صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده – صلى الله عليه وسلم” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (2/ 783).
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 253):
” والمحدَثات – بفتح الدال – : جمع محدَثة. والمراد بها: ما أُحدِث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة.
وما كان له أصل يدل عليه الشرع: فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة.
بخلاف اللغة؛ فإن كل شيء أحدث على غير مثال: يسمى بدعة، سواء كان محمودا أو مذموما. وكذا القول في المحدثة، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، كما تقدم شرحه” انتهى.
وقال فقيه الشافعية في زمانه: ابن حجر الهيتمي، رحمه الله، في جملة كلام له عن البدع وأهلها: ” وَفسّر بَعضهم الْبِدْعَة بِمَا يعم جَمِيع مَا قدمنَا وَغَيره، فَقَالَ: هِيَ مَا لم يقم دَلِيل شَرْعِي على أَنه وَاجِب أَو مُسْتَحبّ، سَوَاء أفعل فِي عَهده – صلى الله عليه وسلم – أَو لم يفعل، كإخراج الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب وقتال التّرْك: لما كَانَ مَفْعُولا بأَمْره لم يكن بِدعَة، وَإِن لم يفعل فِي عَهده. وَكَذَا جمع الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف، والاجتماع على قيام شهر رَمَضَان، وأمثال ذَلِك مِمَّا ثَبت وُجُوبه أَو اسْتِحْبَابه بِدَلِيل شَرْعِي.
وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي التَّرَاوِيح: (نعمت الْبِدْعَة): هِيَ أَرَادَ الْبِدْعَة اللُّغَوِيَّة، وَهُوَ مَا فعل على غير مِثَال، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل؛ وَلَيْسَت بِدعَة شرعا؛ فَإِن الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة ضَلَالَة، كَمَا قَالَ – صلى الله عليه وسلم – .
وَمن قسمهَا من الْعلمَاء إِلَى حسن وَغير حسن: فَإِنَّمَا قسم الْبِدْعَة اللُّغَوِيَّة.
وَمن قَالَ: كل بِدعَة ضَلَالَة ؛ فَمَعْنَاه الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة . أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنْكَرُوا غير الصَّلَوَات الْخمس، كالعيدين، وَإِن لم يكن فِيهِ نهي، وكرهوا استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين وَالصَّلَاة عقيب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة قِيَاسا على الطّواف؟!
وَكَذَا مَا تَركه – صلى الله عليه وسلم – مَعَ قيام الْمُقْتَضى؛ فَيكون تَركه سنة، وَفعله بِدعَة مذمومة.
وَخرج بقولنَا : ( مَعَ قيام الْمُقْتَضى فِي حَيَاته ) : تَركه إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب، وَجمع الْمُصحف، وَمَا تَركه لوُجُود الْمَانِع، كالاجتماع للتراويح؛ فَإِن الْمُقْتَضى التَّام يدْخل فِيهِ الْمَانِع”. انتهى، من “الفتاوى الحديثية” (654)، وعنوان هذا البحث في الكتاب: ” مطلب في أن البدعة الشرعية لا تكون إلا ضلالة بخلاف اللغوية”؛ وهل ندري هل العنوان من وضع المؤلف، أم من وضع جامع فتاواه، أو ناسخها.
فقول الشافعي في البدعة المحمودة: ما وافق السنة، أي ما كان له أصل شرعي، وإنما سمي بدعة من جهة اللغة، لكونه حادثا في ذلك الوقت، كاجتماع الناس على إمام في التراويح.
جاء في كتاب “حقيقة البدعة وأحكامها” (1/432) وما بعدها في أثناء الرد على من احتج بكلام الإمام الشافعي، رحمه الله، على استحسان شيء من البدع:
” من الإنصاف ألا يحمل كلام هذا الإمام أكثر مما يحمل، وألا ينظر إلى كلامه هذا معزولاً عن بقية مقولاته، لا سيما إذا كان في بعض كلامه إجمال، وفي بعضه الآخر تفصيل، فإنه يجب حمل المجمل على المفصل، وتقديم المبين على المبهم، والمنطوق على المفهوم، والعبارة على الإشارة.
ومن كلامه الذي يمكن ضمه إلى تعريفه هذا للبدعة، ما جاء في الرسالة حيث قال عن الاستحسان الذي يجنح إلى التعلق به كل محسن للبدعة: ( … وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال إلى أن قال: ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق) .
وقال رحمه الله: ( … وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، والخبر من الكتاب والسنة عين، يتأخى معناها المجتهد ليصيبه … ) .
وقال: (وإنما الاستحسان تلذذ) .
وقال: (ولو قال بلا خبر لازم، ولا قياس: كان أقرب من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً !!
ولم يجعل الله لأحد بعد رسوله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله.
وجهة العلم بعدُ: الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والآثارُ، وما وضعت من القياس عليها..) .
فهل يمكن بعد كل هذا أن يقال بأن الشافعي يستحسن البدع، ويمدحها ويثني عليها، ويجيز التقرب بها إلى الله؟ .
وهل يعقل أن يكون مراد الشافعي بقوله في تعريف البدعة، تحسين المحدثات والحث على اعتناق ما تراه النفوس والعقول والأذواق حسناً؟ ..
إن المقارنة بين كلامه في تعريف البدعة وكلامه في ذم الاستحسان يوجب على العاقل معرفة قدر هذا الإمام، فلا يرمه بهذه الداهية الدهياء، ولا ينسب إليه ما هو منه براء.
ذكر الذهبي في ترجمته عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت محمد ابن داوود يقول: لم يلحظ في دهر الشافعي كله أن تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه ولا عرف به، مع بغضه لأهل الكلام والبدع) .
وذكر أن أحمد بن حنبل كان يقول: (ما رأيت أحداً أتبع للأثر من الشافعي) وذكر ابن الإمام سحنون قال: (لم يكن في الشافعي بدعة) ، ولو كان الشافعي ممن يستحسن البدع، أو يجيز وقوع بعضها شرعاً، لما استحق من هؤلاء الأئمة هذه الأوصاف، ولنقل عنه ولو مرة واحدة، أنه وصف بدعة الدين بأنها حسنة محمود … “. ” انتهى، ملخصا، منه.
وحاصل ذلك أن الفعل إذا لم يكن له أصل شرعي؛ كان بدعة مذمومة وضلالة.
قال الدكتور محمد حسين الجيزاني في “قواعد معرفة البدع” ص 22 في ضوابط البدعة:
” 3 – ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص ولا عام.
والدليل على هذا القيد: قوله – صلى الله عليه وسلم -: ما ليس منه، وقوله: ليس عليه أمرنا.
وبهذا القيد تخرج المحدثات المتعلقة بالدين، مما له أصل شرعي، عام أو خاص.
فمما أُحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام: ما ثبت بالمصالح المرسلة؛ مثل جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن.
ومما أُحدث في هذا الدين، وكان مستندًا إلى دليل شرعي خاص: إحداث صلاة التراويح جماعة في عهد عمر رضي الله عنه، فإنه قد استند إلى دليل شرعي خاص.
ومثله أيضًا إحياء الشرائع المهجورة، والتمثيل لذلك يتفاوت بحسب الزمان والمكان تفاوتًا بيِّنًا، ومن الأمثلة عليه ذكر الله في مواطن الغفلة.
وبالنظر إلى المعنى اللغوي للفظ الإحداث: صحَّ تسمية الأمور المستندة إلى دليل شرعي: محدثات؛ فإن هذه الأمور الشرعية اُبتدئ فعلها مرة ثانية بعد أن هُجرت أو جُهلت، فهو إحداث نسبي.
ومعلوم أن كل إحداث دل على صحته وثبوته دليل شرعي فلا يسمى – في نظر الشرع – إحداثًا، ولا يكون ابتداعًا، إذ الإحداث والابتداع إنما يطلق – في نظر الشرع – على ما لا دليل عليه.
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القيود الثلاثة من كلام أهل العلم:
قال ابن رجب: (فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين منه بريء).
وقال أيضًا: (والمراد بالبدعة: ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغةً).
وقال ابن حجر: (والمراد بقوله: كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع، بطريق خاص ولا عام).
وقال أيضًا: (وهذا الحديث [يعني حديث من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله؛ فلا يلتفت إليه» ” انتهى.
والحاصل:
أن تقسيم الشافعي للبدعة المحمودة والمذمومة هو تقسيم للبدعة بحسب مفهوم اللغة، وأما بحسب مفهوم الشرع؛ فكل البدع مذمومة، لأنه لا اصل لها في الشرع، وما كان له أصل فإنه لا يسمى في الشرع بدعة وإن سمي في اللغة بذلك.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب