مسجد قرطبة الكنيسة في اسبانيا اشترتة ب 30 يورو فقط، بعد أن استغلت ثغرة قانونية تسمح بتسجيل المعابد بأثمان رمزية، المشكلة الحقيقية: أن بعض المسلمين والنصاري يقولون: إن المسلمين على مر التاريخ حولوا الكثير من الكنائس إلي مساجد مثل أيا صوفيا في تركيا، فكيف نرد عليهم؟
هل تحويل مسجد قرطبة إلى كنيسة يشابه ما فعله المسلمون من تحويل الكنائس إلى مساجد؟
السؤال: 304408
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
لا شك أن اعتداء نصارى أسبانيا على جامع قرطبة بتاريخه العريق كأكبر مسجد إسلامي، وواحد من أكبر معاهد التعليم الإسلامي في تاريخ الأندلس؛ يعد مصيبة يحزن المسلم عليها، حزنًا لا يمنعه الصبر.
وقال شيخ الإسلام بن تيمية: “كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب؛ وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار …
وقوله صلى الله عليه وسلم: “ثم يعود غريباً كما بدأ”: أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلَ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ، فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك.
وكذلك بدأ غريباً، ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل، كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً” انتهى، من “مجموع الفتاوى” (18/295).
ثانيًا:
المسلم عندما يفكر تفكيرًا يصوغ به تصوراته وأحكامه، فهو ينطلق في هذا من رؤيته الكونية، التي يرى فيها الله خالق للعالم الذي نحياه، فكل ما في هذا العالم ملك له سبحانه، والله أرسل أنبيائه ورسله بالدين الحق، فكان الناس مع الدين الحق على أحوال، بعضهم يكفر به، وبعضهم يؤمن به ويموت مؤمنًا به، وبعضهم يؤمن به ويحرفه، أو يؤمن به بعد أن تم تحريفه.
ثم ختم الله تلك الرسالات برسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وجعلها مهيمنة على ما قبلها من الرسالات، وجعل هذا الدين (الإسلام) مهيمنًا على الناس كلهم، فلا يسع أحدًا سمع برسول الله ألا يؤمن به وبدين الإسلام.
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. النحل/89
وقال عليه الصلاة والسلام: “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار”. أخرجه مسلم(153).
ثالثًا:
بناء على ما تقدم في النقطة السابقة؛ فإن الله يملك الكون كله، ويملك هذه الأرض وما فيها، والله سبحانه يقول: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف/128؛ فهذه الأرض كلها في الحقيقة ملك لعباد الله الصالحين، أتباع الإسلام الدين الحق، ولا يعني هذا أنهم يعتدون على من يملك أرضًا حصلها بطريق شرعي، وإنما يعني أنهم يقرون أصحاب الحقوق المشروعة، أما كل أرض أو بنيان غير مشروع، فإن للمسلمين الحق في التصرف فيه بكلمة الله.
ومثال ذلك الكنائس والأماكن التي يعبد فيها غير الله، فهذه الأماكن ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما يوجد في بلاد لم يفتحها المسلمون، فهذه لا سلطان للمسلمين عليها إلا عبر الطريق الذي يرتضيه أصحابها، كما يشتري بعض المسلمين في أوروبا بعض الكنائس ويحولونها لمساجد.
النوع الثاني: ما يوجد في بلاد فتحها المسلمون بالصلح مع أهلها؛ فهذه يُقر فيها المسلمون أهل الكتاب على أماكن عبادتهم، على تفاصيل فصلها الفقهاء في كتبهم.
النوع الثالث: ما يوجد في بلاد فتحها المسلمون بالحرب، فهذه البلاد تعد كل معابدها ملكا للمسلمين، يتصرفون فيها بحسب ما يراه ولي الأمر من المصلحة.
والأندلس (أسبانيا الحالية) والقسطنطينة (استانبول الحالية) كلاهما فتحه المسلمون بالحرب، فكل ما فيهما من الكنائس ونحوها ملك للمسلمين، يتصرفون فيه كيف شاؤوا، وإذا نزع منهم هذا الحق في مرحلة تاريخية معينة، نتيجة للغربة وتغير الدول (كالذي حدث في أسبانيا وكالذي حدث في تركيا في فترات سابقة)؛ فإن المسلمين يصبرون على مصيبته، ويسعون متى وجدت القدرة لاستعادته، كما من الله علينا باستعادة أياصوفيا.
قال ابن قدامة في “المغني”: “فَصْلٌ : أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا ، مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ ، كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ ، فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً ، وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا ، وَلَا يُشْرِبُوا فِيهِ خَمْرًا ، وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا .رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ .
وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ .
وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، مِثْلُ كَنِيسَةِ الرُّومِ فِي بَغْدَادَ ، فَهَذِهِ كَانَتْ فِي قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأُقِرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً ، فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ .
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ هَدْمُهُ ، وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ ، كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ .
وَالثَّانِي: يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ ، فَنَزَلُوهُ ، فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ .
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً ، فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ .
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا ، وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَا أُحْدِثَتْ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، فَأُبْقِيَتْ .
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عُمَّالِهِ ، أَنْ لَا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْت نَارٍ.
وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا فُتِحَ صُلْحًا ، وَهُوَ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ ، وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا ، فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ.
وَالثَّانِي، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ إلَيْنَا، فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعَهُمْ، مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ، وَعِمَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لَهُمْ ، جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَلَدِ لَهُمْ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مُعَيَّنًا” انتهى من “المغني” (9/283).
واعلم أخي الكريم أنه لا يستوي سعينا وعملنا، بسعي غيرنا؛ لأننا أصحاب الدين الحق وهم أصحاب الدين الباطل.
ولما أحس أبو سفيان شيئًا من النصر في غزوة أحد قال: “أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-: (أَجِيبُوهُ؟)، فَقَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: (قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(أَجِيبُوهُ؟)، قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: (قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ) أخرجه البخاري(4043)، وأحمد(18593) واللفظ له.
تأمل هذا الحديث جيدًا أخي الكريم، فالفرق بيننا وبين غيرنا ثابت دائمًا، مهما كان شكل التصرف الخارجي متشابهًا، فستبقى القيمة المركزية الثابتة: أن الله مولانا؛ ولا مولى لهم.
ولما قال أبو سفيان: “يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال”.
قال له عمر بن الخطاب: “لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار”. أخرجه أحمد(2609).
فلا سواء، وعن هذا الأصل المحكم يصدر المسلم في تقييمه للمواقف والأحداث والتصورات والأفكار.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب