أنا إنسانة أريد الاستقامة والهدى والجنة والدار الآخرة ، ووالله ما أريد الدنيا ، همي كله هو الآخرة ، ورضا ربي عني ، ولكني عندما أقرأ في أحوال السلف والصحابة أصاب بحيرة ، فالصحابة مثلاً رغم بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة كانوا خائفين وجلين قلقين من ألا يقبل الله منهم عملهم ، فأين هي السكينة ، وطمأنينة القلب ، حسن الظن بالله عز وجل والتوكل عليه ؟ وما هو سوء الظن بالله تعالى إذن ؟ أنا كلما قرأت أن الله عند ظن عبده به استبشرت ، وانطلقت في الأعمال الصالحة والدعاء ، ويملؤني حب الله عز وجل ، وأستبشر بالجنة ، فهل كان السلف هكذا ؟ وأين الخطأ في فهمي ؟ فأنا إذا أخلصت نيتي لله ، و فعلت الطاعات ، واجتنبت المحرمات ، ألا أتفائل بالجنة ؟ وهل معنى قوله تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) ، أني يجب أن أكون خائفة قلقة منزعجة ، هذا الشعور يعيقني حقاً عن المسارعة في الخيرات ، وأصاب باكتئاب حاد لدرجة أنني الآن مضطربة قلقة خائفة من عدم القبول ، شهيتي مسدودة ، وقلبي ينبض بقوة ؟ وهل الإنسان المتفائل بالجنة المطيع لله المجتنب لمحارم الله ، والإنسان المطيع أيضاً لله ، ولكنه خائف من عدم القبول ، هل هؤلاء الإثنين كلاهما على صواب وعلى هدى ؟
هل تغلّب الرجاء وحسن الظن بالله أم الخوف من عدم القبول
السؤال: 307430
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء والمحبة، ومن الرجاء: حسن الظن بالله تعالى أن يقبل منه عمله ويثيبه عليه ويدخله الجنة.
والنصوص في الأمر بهذه المقامات والترغيب فيها كثيرة.
والصحابة كانوا يجمعون بين ذلك كله، وخوفُهم من عدم القبول، لم يكن الغالب على أحوالهم، فتارة هذا، وتارة هذا.
وهكذا ينبغي أن تكوني، فإذا نشطتْ نفسك للعبادة، غلّبتِ الرجاء وحسن الظن.
وإذا حصل تقصير أو معصية: غلّبتِ الخوف، ليدفعك ذلك إلى المسارعة بالتوبة، ولزوم الاستغفار، والاستكثار من الصالحات.
ولا شك أن النفس لا تثبت على حال واحدة، بل تدور بين الإقبال والإدبار، والنشاط والفتور، والطاعة والمعصية، والموفّق من يسوسها، ويعالجها، ويؤدبها، وذلك يكون بالرجاء وبالخوف.
ولو عاملها بالرجاء وحده، فإنها يوشك أن تركن إلى الغرور والأماني ، والقعود عن العمل ، اغترارا بحلم الله وعفوه ، وتعويلاً على حسن الظن به.
وقد وصف الله أنبياءه وأولياءه بأنهم يجمعون بين الخوف والرجاء، فقال: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء/90 .
والرغب : الطمع والرجاء . والرهب : الخوف .
وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشعراء/82 ، وقال : وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ الشعراء/85 .
وقال خليله محمد صلى الله عليه وسلم : وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي رواه مسلم (1110) .
قال ابن القيم رحمه الله : ” وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) الإسراء/ 57 .
فابتغاء الوسيلة: هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف.
فهذه طريقة عباده وأوليائه، وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد، إلى استحلال المحرمات، ويقول: المحب لا يضره ذنب. وصنف بعضهم في ذلك مصنفا، وذكر فيه أثرا مكذوبا: إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب.
وهذا كذب قطعا، مناف للإسلام، فالذنوب تضر بالذات لكل أحد ، كضرر السم للبدن ” انتهى من “بدائع الفوائد” (3/3) .
وقد استحب بعض السلف أن يغلّب الإنسان الخوف في حال الصحة ، ويغلّب الرجاء في حال الضعف ودنو الأجل .
ومنهم من استحب اعتدالهما وتغليب المحبة.
قال ابن القيم رحمه الله : ” القلب في سَيره إلى الله عز وجل: بمنزلة الطائر:
فالمحبة: رأسه . والخوف والرجاء: جناحاه .
فمتى سلم الرأس والجناحان: فالطائر جيد الطيران .
ومتى قطع الرأس: مات الطائر .
ومتى فُقد الجناحان: فهو عرضة لكل صائد وكاسر .
ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء ، وعند الخروج من الدنيا: يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف . هذه طريقة أبي سليمان وغيره، قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد .
وقال غيره : أكمل الأحوال : اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه ” انتهى من “مدارج السالكين” (1/514) .
والإنسان أبصر بنفسه، فإذا كان تغليب الحب والرجاء وحسن الظن، يثمر معه أكثر من الخوف؛ فلا حرج عليه في هذا التغليب، مع عدم إغفال الخوف بالمرة، فيستحضر الخوف كلما قصر أو زلّ، أو رأى تأخره عن السابقين الصالحين.
وقد مدح الله عباده بخوفهم فقال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ المؤمنون/60، 61 .
روى أحمد (25263) ، والترمذي (3175) ، وابن ماجه (4198) واللفظ له عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60] أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَسْرِقُ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لَا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ والحديث صححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”.
ولا ينبغي المقارنة بين راج وخائف، لأن هذا يوهم أن الراجي ماض في رجائه لا يخاف، وأن الخائف مقيم على خوفه لا يرجو، وقد علمتِ أن المؤمن يجمع بينهما، وإن كان قد يغلّب أحدهما على الآخر.
فاستمري فيما أنت فيه من الخير، وأحسني الظن بالرب الرحيم الكريم، واحملي ما تجدينه عن بعض السلف على أنه تعبير عن حالة الخوف التي لا يلزم أن تكون دائمة، بل هي مصححة للمسيرة، ولا يمكن أن تعزب بالكلية عن المؤمن.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب