دار بيني وبين صديق لي حوار خلاصته أنه يقول : ” التسبيح في الركوع مرة، وفي السجود كذلك، والاقتصار على قول ربنا ولك الحمد بعد الرفع من الركوع كل هذا منافٍ للطمأنينة التي هي ركن، ويقول بلزوم تكرار رب اغفر لي بين السجدتين حتى يقول القائل نَسِيَ، وكذلك بعد الرفع من الركوع يرفع حتى يقول القائل نَسِيَ؛ وذلك لأن أنس بن مالك رضي الله عنه بكى من أجل إضاعة هذا الأمر؛ وقد قلت له : إن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أفتت بأن الواجب التسبيح مرة في الركوع والسجود، فقال اخطأت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونقلت له كثيرا من أقوال العلماء المعاصرين، فقال العمدة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعبأ صديقي في هذه المسألة بأقوال العلماء ولا اللجنة الدائمة، وعمدته في الباب حديث أنس الذي بكى فيه، وشهد لعمر بن عبد العزيز بأنه أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث البراء أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قريبة من السواء، وكثيرا ما يُعيد هذا الأخ الصلاة بعدما يصليها في جماعة، ويرى لزوما على جميع المسلمين الإتيان بالذكر الوارد أو معظمه فإن لم يفعل فقد أخطأ، بل يقول صلاته غير صحيحة” فهل كلام صديقي صحيح ؟ مع ذكر الدليل؛ لأن عمدته حديث أنس، وبعض الأقوال، وإن لم يكن صحيحا فما نصيحتكم له؟
حد الطمأنية في الصلاة وهل يلزم أن يسبح في الركوع والسجود أكثر من مرة ؟
السؤال: 307741
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الطمأنينة ركن من أركان الصلاة ، في الركوع والاعتدال منه والسجود والجلوس بين السجدتين . والطمأنينة : هي السكون بحيث تستقر مفاصله في موضعها.
قال في “كشاف القناع” (1/ 387): “(و) التاسع (الطمأنينة في هذه الأفعال) : أي في الركوع والاعتدال عنه والسجود والجلوس بين السجدتين ؛ لما سبق ، ولحديث حذيفة : أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال له: ما صليت، ولو مت ، مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا – صلى الله عليه وسلم – رواه البخاري. وظاهره: أنها ركن واحد في الكل ، لأنه يعم القيام، قاله في المبدع (بقدر الذكر الواجب لذاكره) انتهى “.
والصحيح من مذهب الحنابلة أن الطمأنينة: السكون، وإن قل. حتى لو لم يأت بالذكر الواجب نسيانا.
قال في “الإنصاف” (2/ 113): “الثانية: قوله (والطمأنينة في هذه الأفعال) بلا نزاع.
وحدُّها: حصول السكون، وإن قل، على الصحيح من المذهب. جزم به في النظم وقدمه في الفروع، وابن تميم، والرعاية، والفائق، ومجمع البحرين . قال في الرعاية: فإن نقص عنه : فاحتمالان.
وقيل: هي بقدر الذكر الواجب . قال المجد في شرحه، وتبعه في الحاوي الكبير: وهو الأقوى وجزم به في المذهب، والحاوي الصغير.
وفائدة الوجهين: إذا نسي التسبيح في ركوعه، أو سجوده، أو التحميد في اعتداله، أو سؤال المغفرة في جلوسه، أو عجز عنه لعجمة أو خرس، أو تعمد تركه، وقلنا: هو سنة، واطمأن قدرا لا يتسع له : فصلاته صحيحة على الوجه الأول ، ولا تصح على الثاني” انتهى.
وقال في “شرح المنتهى” (1/ 217): “(و) العاشر (طمأنينة في كل فعل) مما تقدم، لأمره صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته عند ذكر كل فعل منها بالطمأنينة .
(وهي) أي: الطمأنينة (السكون، وإن قل) ، قال الجوهري: اطمأن الرجل اطمئنانا وطمأنينة أي: سكن.
وقيل: بقدر الذكر الواجب، ليتمكن من الإتيان به” انتهى.
وضبطها الشافعية بأن يستقر العضو في الركن المقصود، من ركوع أو سجود، أو اعتدال بعدهما؛ بحيث ينفصل عما قبله من أفعال الصلاة؛ فإن لم يتميز كل فعل منها عن الآخر، بهذه الطمأنينة: لم يجزئه.
قال النووي رحمه الله: ” وأقلها: أن يمكث في هيئة الركوع، حتى تستقر أعضاؤه، وتنفصل حركة هويه، عن ارتفاعه من الركوع ، ولو جاوز حد أقل الركوع ، بلا خلاف ؛ لحديث المسيء صلاته. ولو زاد في الهوي ، ثم ارتفع ، والحركات متصلة ، ولم يلبث : لم تحصل الطمأنينة، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة، بلا خلاف” انتهى، من “المجموع شرح المهذب” (3/409).
وينظر للأهمية جواب السؤال رقم : (279587).
ثانيا:
التسبيح في الركوع والسجود، مستحب عند الجمهور، واجب عند الحنابلة، وهو مذهب إسحاق وداود الظاهري، ولا يجب التسبيح عند الحنابلة إلا مرة.
قال ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (1/297) : ” والمشهور عن أحمد أن تكبير الخفض والرفع ، وتسبيح الركوع والسجود ، وقول : سمع الله لمن حمده ، وربنا ولك الحمد ، وقول : ربي اغفر لي – بين السجدتين – ، والتشهد الأول : واجب . وهو قول إسحاق ، وداود .
وعن أحمد : أنه غير واجب . وهو قول أكثر الفقهاء ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء في صلاته ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولأنه لو كان واجبا لم يسقط بالسهو ، كالأركان .
ولنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به – وأمره للوجوب – ، وفعَله . وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وقد روى أبو داود ، عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ إلى قوله : ثم يكبر ، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، حتى يستوي قائما ثم يقول : الله أكبر ، ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ، ثم يقول : الله أكبر . ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا ، ثم يقول : الله أكبر . ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ، ثم يرفع رأسه فيكبر . فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته . وهذا نص في وجوب التكبير .
ولأن مواضع هذه الأذكار أركان الصلاة ، فكان فيها ذكر واجب ، كالقيام .
وأما حديث المسيء في صلاته: فقد ذكر في الحديث الذي رويناه تعليمَه ذلك ، وهي زيادة يجب قبولها .
على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه كل الواجبات ، بدليل أنه لم يعلمه التشهد ولا السلام، ويحتمل أنه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه ، ولا يلزم من التساوي في الوجوب، التساوي في الأحكام ، بدليل واجبات الحج ” انتهى .
وحديث علي بن يحيى بن خلاد : صححه الألباني في “صحيح أبي داود” .
وينظر : “المجموع” (3/387).
فعلى قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية لو لم يأت بتسبيحة واحدة، فإن صلاته صحيحة؛ لأنه لم يظهر لهم دليل يدل على الوجوب فضلا عن الركنية.
وأما لو أتى بتسبيحة واحدة: فصلاته صحيحة في قول عامة أهل العلم، ومنهم الحنابلة الذين يوجبون التسبيح، فإنهم لا يوجبون أكثر من تسبيحة واحدة، وما زاد فهو مستحب.
ثالثا:
هناك فرق بين فعل الفضيلة والأكمل، وبين القول بأن ذلك واجب أو ركن.
والقول بالوجوب يحتاج إلى دليل يفيد الأمر بالفعل، أو يرتب الإثم على تركه.
وأما القول بالركنية فيحتاج إلى دليل أخص من ذلك يفيد بطلان العبادة عند ترك الفعل.
وإطالة الركوع والسجود، وجعلهما قريبا أو مثلا للقيام، أمر مستحب، ولا نعلم أحدا أوجب ذلك، أو أوجب عشر تسبيحات على ما في حديث أنس.
قال ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (1/ 361): “مسألة: قال: (ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثا. وهو أدنى الكمال، وإن قال مرة أجزأه) .
وجملة ذلك: أنه يشرع أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم. وبه قال الشافعي، وأصحاب الرأي.
وقال مالك: ليس عندنا في الركوع والسجود شيء محدود، وقد سمعت أن التسبيح في الركوع والسجود.
ولنا، ما روى عقبة بن عامر، قال: لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم . وعن ابن مسعود، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم. وذلك أدناه. أخرجهما أبو داود وابن ماجه.
وروى حذيفة، أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات . رواه الأثرم ورواه أبو داود، ولم يقل: ثلاث مرات.
ويجزئ تسبيحة واحدة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالتسبيح في حديث عقبة، ولم يذكر عددا، فدل على أنه يجزئ أدناه، وأدنى الكمال ثلاث؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن مسعود ” وذلك أدناه ” انتهى.
على أن حديث أنس في إسناده مقال ، ولا يجزم بصحته .
روى أحمد (12661)، وأبو داود (888) عن سَعِيد بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: “مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى – يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ – قَالَ: فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ، وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ”.
والحديث ضعفه الألباني في “صحيح أبي داود”، وضعفه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
وقال الألباني في “صحيح النسائي” (1135) : حسن إن شاء الله.
وعلى فرض صحته فلا نعلم أحدا أوجب ذلك، فضلا عن جعلها ركنا لا تصح الصلاة بدونه، أو جعل الطمأنينة متوقفة عليه، أو قال بإعادة الصلاة إذا فقد.
فعلى صاحبك أن يتقي الله تعالى، وألا يتكلم في الدين بغير علم، وأن يعلم أن إعادته للصلاة بدعة وتنطع، وأن فهم العلماء مقدم على فهمه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة