هل يجوز وضع شرط على القاتل بدل الدية ، مثلا لو اشترط أهل القتيل عليه أن يحفظ القرآن ، أو أن يثبت لهم أنه تاب ، وعاد إلى الله تعالى ليعفو عنه ، علما أنه قتل متعمدا ؟
حكم اشتراط أولياء الدم للعفو عن القاتل العمد أن يتوب أو يحفظ القرآن
السؤال: 316104
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
إذا ثبت القتل العمد العدوان، كان لأولياء القتيل الخيار بين القصاص، أو الدية، أو العفو؛ لقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة/178، 179 .
وروى البخاري (6880) ، ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ .
ثانيا:
يشترط للقصاص اتفاق جميع المستحقين للدم، عليه، فإذا عفى أحد ورثة الدم عنه، سقط القصاص، بشرط أن يكون العفو من بالغ عاقل.
وإذا كان في الورثة صغير أو مجنون، حبس الجاني، إلى أن يبلغ الصغير ويعقل المجنون، ولا يجوز لوليهما العفو عن القصاص، ولا يصح العفو منهما قبل البلوغ والعقل.
قال في “كشاف القناع” (5/ 533): “(فإن كان) مستحق القصاص (صغيرا أو مجنونا : لم يجز) لآخر (استيفاؤه) ، لما تقدم .
(ويحبس القاتل حتى يبلغ الصغير ، و) حتى (يعقل المجنون) ؛ لأن فيه حظا للقاتل بتأخير قتله، وحظا للمستحق بإيصاله إلى حقه. ولأنه يستحق إتلاف نفسه ومنفعته، فإذا تعذر استيفاء النفس لعارض، بقي إتلاف المنفعة سالما عن المعارض. وقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قود حتى بلغ ابن القتيل، فلم ينكَر ذلك، وكان في عصر الصحابة.
(وليس لأبيهما) ، أي الصغير والمجنون : (استيفاؤه) لهما ، (كوصي وحاكم) ، لأن القصد التشفي وترك الغيظ ؛ ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب أو غيره ، بخلاف الدية فإن الغرض يحصل باستيفائه، ولأن الدية يملك استيفاءها إذا تعينت ، والقصاص لا يتعين .
( فإن كانا محتاجين إلى نفقة : فلولي المجنون العفو إلى الدية ، دون ولي الصغير ؛ نصا) ؛ لأن المجنون ليس في حالة معتادة يُنتظر فيها إفاقته ورجوع عقله ، بخلاف الصبي” انتهى.
ثالثا:
إذا عفا بعض ورثة الدم عن الدية، لم يسقط حق من لم يعفُ.
وفي “الموسوعة الفقهية” (21/ 94): ” واتفقوا على أن دية النفس تسقط بعفو ، أو إبراء ، جميع الورثة المستحقين لها .
وإذا عفا ، أو أبرأ بعضهم دون البعض : يسقط حق من عفا ، وتبقى حصة الآخرين في مال الجاني إن كانت الجناية عمدا , وعلى العاقلة إن كانت خطأ” انتهى.
وليس للأولياء العفو عن الدية ، إذا كان على المقتول دين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وقوله: وعفوه مجاناً أفضل :
ظاهر كلامه أنه أفضل مطلقاً، سواءً كان هذا الجاني ممن عرف بالظلم والفساد، أم ممن لم يعرف بذلك؟
لكن الصواب ، بلا شك : ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال: إن العفو إحسان، والإحسان لا يكون إحساناً حتى يخلو من الظلم والشر والفساد؛ فإذا تضمن هذا الإحسان شراً وفساداً أو ظلماً، لم يكن إحساناً ولا عدلاً.
وعلى هذا ؛ فإذا كان هذا القاتل ممن عرف بالشر والفساد : فإن القصاص منه أفضل.
ويدل لما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وهل العافي عن المجرم الظالم المعتدي، المعروف بالعدوان، مُصلح؟!
لا؛ لأنه إذا عفي عنه اليوم، فقد يقتل واحداً أو عشرة غداً، فمثل هذا لا ينبغي أن يعفى عنه، وإن لم نقل بتحريم العفو، فإننا لا نقول بترجيحه.
ومن هنا نعرف خطأ بعض الناس الذين عندهم عاطفة أقوى من التعقل، والعاطفة إذا خلت من التعقل جرفت بالإنسان؛ لأن العاطفة عاصفة، فلهذا يجب على الإنسان أن يحكم العقل في أموره قبل العاطفة، وإلاّ عصفت به عاطفته حتى أودت به إلى الهلاك.
فبعض الناس إذا حدثت من إنسان حادثة سير، وما أشبه ذلك، فإنه يعفو عن الدية سريعاً، وهذا خطأ عظيم.
أمَّا إذا كان الميت عليه دين، أو كان الورثة قصّاراً : فإن العفو حرام بلا شك، والعجب أن بعض الورثة يعفون ولا يسألون هل عليه دين أو لا؟ والدَّين مقدّم على حق الورثة.
وأمَّا إذا لم يكن عليه دين، والورثة كلهم مرشدون، فإنه يجب علينا أن نتعقل وننظر، هل هذا الرجل من المتهورين الذين لا يبالون، والذين يُذكر عنهم أنهم يقولون: نحن لا نبالي، الدية في دُرْج السيارة!! فمثل هذا لا يقابل بالعفو، بل ينبغي أن يقابل بالشدة؛ حتى يكون رادعاً له، ولأمثاله من المتهورين.
ودليل المؤلف على أن العفو أفضل، قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237] ، وقوله في وصف المتقين: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] .
ولكنا نقول: إن الله تعالى يقول: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ؛ فإذا كان في العفو مخالفة للتقوى، فكيف يكون أقرب للتقوى؟!
وقوله تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ، أعقبه تعالى بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ؛ فإذا لم يكن العفو إحساناً ، فإن صاحبه لا يمدح. انتهى من “الشرح الممتع” (14/ 59).
وينظر: جواب السؤال رقم : (146907) .
رابعا:
لم نقف على كلام للفقهاء في اشتراط شيء للعفو عن القصاص والدية، كالتوبة، أو حفظ القرآن.
لكن لا يظهر مانع من اشتراط التوبة ، ففي ذلك إعانة له وحث له على القيام بهذا الواجب .
وقد ورد نحو هذا الشرط عن الإمام أحمد رحمه الله .
جاء رجل إلى الإمام أحمد وقال له : إني تكلمت فيك بشيء ، فاجعلني في حلٍّ .
فقال الإمام أحمد : أنت في حل ، إن لم تَعُدْ .
فلما انصرف الرجل قال الإمام أحمد : ما أحسنَ الشرط ! إذا أراد أن يعود ، فلا يعود إن كان له دين .
وقال المروذي : سمعت رجلا يقول للإمام أحمد : اجعلني في حل . قال : من أي شيء ؟ قال : كنت أذكرك – أي : أتكلم فيك- فقال له : ولم أردت أن تذكرني ؟
فجعل يعترف بالخطأ ، فقال له الإمام أحمد : على أن لا تعود إلى هذا . قال : نعم ، قال : قم.
ثم التفت إلي وهو يبتسم …
فكأنه أراد منهما التوبة ، وأن لا يعودا .
ينظر : “الآداب الشرعية” لابن مفلح الحنبلي (1/102) .
وعلى هذا ، فاشتراط أن يتوب الجاني لا بأس به .
وكذلك، لا يظهر لنا ما يمنع من اشتراط حفظ القرآن، كله أو بعضه ، فإن في هذا نفعا ظاهرا، وإعانة له على الصلاح والاستقامة، ولعله أن ينتفع بذلك ، ويعلم غيره أيضا .
فنرجو ألا يكون بذلك بأس؛ وإن كان ينبغي أن يراعى حاله ، وما يطيقه من ذلك ، ولا يشدد عليه فيه ، إذا كانت قد ظهرت توبته ، ورغبته في الخير والصلاح ، فينبغي أن يكتفى من الحفظ بما يطيقه مثله، ولا يكلف فوق ذلك ، وتكون العناية بحفظ ما تصح به صلاته ، ثم ما زاد على ذلك، فبحسب ما يطيقه مثله .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة